منذ عرض فيلم «المطلوبون 18» للمخرج والفنان التشكيلي عامر الشوملي والذي فاز بجائزة أفضل عمل وثائقي في مهرجان أبوظبي السينمائي عام 2014، بدأت الأنظار تتجه لترصد جدياً تطوّر صناعة الفيلم الوثائقي والتسجيلي في فلسطين. فما قدمه الشوملي أعطى شعوراً للمتابعين بأن ما سيتم تقديمه لاحقاً باتت مقارنته ضرورية بفيلمه الذي اعتمد فيه مع المخرج باول كاون الدمج بين صور واقعية تقتصر على من ظَلّ على قيد الحياة من الشباب الذين قرروا ابتياع الأبقار، ورسم كرتوني له علاقة بفن السرد والعودة إلى الوراء، إضافة إلى أن الفيلم أتى مبنيّاً على قصة قرأها الشوملي وهو صغير ومقيم وقتها في مخيم اليرموك في سوريا. فكانت المحصلة فيلماً متماسكاً من كل الجوانب، يشد متفرجه منذ بدايته إلى نهايته بشكل كامل دون الشعور لحظة بأي نوع من التململ، فناهيك عن أن النكتة بدت حاضرة فيه مثل الغصة. بعدها ظهر العديد من الأفلام الوثائقية المهمة، لكن غالبيتها كانت محصورة بالنمطية التي إما أن تكون مثبتة على شخصية واحدة يُترك لها العنان في التعبير عن مشاعرها، كما حدث مع فيلم ساندرا ماضي «ساكن» أو تكون أقرب إلى ما تتناوله نشرات الأخبار. معايشة اليوميات ومن جانب آخر ظهرت أفلام وثائقية تعتمد على تتبع حالات محددة والتعايش مع يومياتها لتكون هي موضوع الفيلم الرئيسي دون التفكير بعناصر صناعة الصورة الفنية التي لن تتناسب مع قيمة الحدث الآني، مثلما حدث مع فيلم «إسعاف» للمخرج محمد جبالي، الذي قرر أن يكون حاضراً في سيارة إسعاف خلال اجتياح غزة في عام 2014، وينقل بكاميرته اللحظات التي يعيشها المسعفون مع المصابين، وفيلم «نفق الموت» للمخرج محمد حرب، الذي كانت له حكاية أخرى تتابع طريقة حفر الأنفاق في غزة، ومحاولة إيصال فكرة أن تلك الأنفاق ليست لتهريب الأسلحة بشكل رئيسي، بل هي لمد جسر تواصل مع الحياة في مصر، مثل وجبة من «كنتاكي» أو ماكدونالدز» اشتهتها عائلة تعيش تحت الحصار. فمن الواضح أن النقلة النوعية في طريقة سرد الحكاية الفلسطينية التي تعاني حتى اللحظة من الجرائم الصهيونية، بدأت تأخذ منحى يبتعد من تسليط الضوء على الشخصيات المشهورة النضالية، وتقترب من معاناة الشعب الذي يعيش هو تفاصيل تلك المعاناة، بعيداً من أي تأطير سياسي، فالحديث عن الحق لا يحتاج إلى صورة مناضل معلقة على جدار أو سياسي محنك يتحدث أمام كاميرا. يكفي أن تشاهد «في أثر مادة سحرية» لجمانة مناع التي تحكي الموسيقى كدليل على أصحاب الحق في البلاد. من الواضح أن ما جاء أعلاه، إنما كان على سبيل المثال لا الحصر، للحديث عن شكل الفيلم الوثائقي الفلسطيني الذي وجد في صناعة الفيلم الفلسطيني الروائي نموذجاً ومَخرجاً لتوصيل صور فلسطين إلى العالم كله. فكما بات ملموساً أن تطور الفيلم الروائي بدأ منذ أكثر من 10 سنوات،عندما قرر المخرج الفلسطيني أن يستقل من دعم الأحزاب، وبدأ في خطابه يتحول من محلي عربي إلى عالمي، ومع أن هذه الخطوة جاءت متأخرة نوعا ماً، لكن لا شك في أن صداها بات واضحاً خاصة في وصول أفلام فلسطينية من كل الفئات إلى العالمية ونيلها جوائز كبرى من مهرجانات دولية أو ترشيحات للأوسكار كما حدث مع فيلم «الجنة الآن» و «عمر» للمخرج هاني أبو اسعد، أو مع الفيلم القصير»السلام عليك يا مريم» للمخرج باسل خليل وهي الأفلام التي وصلت إلى التنافس على جائزة الأوسكار. معايير جديدة وفي العودة إلى الأفلام الوثائقية والتسجيلية نصل إلى الحديث عن فيلم «اصطياد أشباح» للمخرج رائد أنضوني، الذي حصل أخيراً على جائزة أفضل فيلم وثائقي في الدورة 67 من مهرجان برلين السينمائي، وهي جائزة مستحدثة تضاف إلى الجوائز الرئيسية في المهرجان، حيث نستطيع القول إن نقطة التحول في آلية صناعة الفيلم الوثائقي بات لها توجهها الخاص، الذي من الصعب الخروج من منهجيته إلا إذا ظهرت منهجية أكثر تطوراً، وعلى ما يبدو أن كل صانع فيلم وثائقي سيفكر كثيراً قبل المضي في صناعة فيلم، بأن يتناسب من الناحية الفنية ومن ناحية القيمة مع ما تم تقديمه في الآونة الأخيرة. وعلى الرغم من أن الفكرة الكامنة وراء تحقيق فيلم «اصطياد أشباح» ليست جديدة، بل نجدها منذ فترة مع الفيلم اللبناني «تدمر» للمخرجين مونيكا بورغمان ولقمان سليم، وهي تلك القائمة على البحث عن معتقلين سابقين، ومحاولة إعادة بناء التفاصيل التي عايشوها بدءاً من بناء السجن نفسه ومروا بيومياتهم وأحاسيسهم وليسن انتهاء بتأكيد أن السجن لا يزال يعيش فيهم على الرغم من كذبة تحررهم منه. فقد بدأ انضوني صناعة فيلمه بإعلان في صحيفة يقول فيه: «مطلوب معتقلون سابقون للتمثيل» سيتبين أنه يريد منهم أن يحضروا في الفيلم، إضافة إلى شخصه، هو صاحب التجربة المريرة في المعتقل، ويعبر هنا عن تجربته كرسام كرتوني مقيد في كرسي. لا شك في أن مشاهدة معتقلين سابقين جاؤوا لتأدية تجربة أداء في فيلم أنضوني بحد ذاتها حكاية أراد هذا من خلالها أن يعطي فرصة لهؤلاء أن يعايشوا تلك التجربة لكن بطريقة مغايرة. فالأسير السابق من الممكن أن يؤدي دور الجلاد، أو ضابط التحقيق. وأعطى أنضوني حرية لكل هؤلاء في اختيار الشخصيات التي يريدون تأديتها، حتى يستطيعوا ولو قليلا تفريغ كل الغضب الذي من الواضح أنه ما زال يعيش في داخلهم حتى بعد كذبة تحررهم من الأسر. فأنت كمتلق ستعيش تفصيل بناء سجن المسكوبية، وستعيش في كل لحظة بناء محاولة التقاط لغة عيون كل من يبني سجنه السابق، والتي من الطبيعي أن تكون مليئة بالغضب والقهر والذكريات الموجعة حد الصراخ والضحك الهستيري والانطواء على النفس في مشاهد مختلفة. أهمية هذا الفيلم تكمن في أنه عرض في برلين، ونال جائزة فيها، وجرى الحديث عنه في الصحف العالمية، للكشف عن الطريقة الهمجية والوحشية التي يعتمدها الجلاد «الإسرائيلي» في التفنن في التعذيب، وهو الذي يحاول طوال الوقت أن يظهر بشكل حضاري خاصة أمام الغرب. هذه التغطية للفيلم عالمياً هي التي من الممكن أن تكون البرد والسلام الذي ستشعر به قلوب المعتقلين السابقين والذين ما زالوا في المعتقلات، على الرغم من محاولة أنضوني طوال الوقت لعب دور المعالج النفسي - إذا صح التعبير - لكل هؤلاء، بإعطائهم كامل العنان ليفرغوا الشحنات التي تعيش معهم وتتعايش. ومن ناحية أخرى، أوضح أنضوني من خلال إدارته لكل فريق العمل، أنهم يحبون الحياة، يضحكون ويطلقون النكات، ويستهزئ بعضهم ببعض، ويتشاجرون، على رغم كل التحديات والألم الذي يعايشونه في كل تفصيل في حياتهم. فكيف لشخص منهم أن ينسى مثلاً أن زميله المعتقل السابق تعرض لتحرش جنسي من ضابط التحقيق؟ هذه التفصيلة تحديداً كانت كفيلة بأن لا ينام كثير من المعتقلين الممثلين، في الوقت الذي أدى دور الضابط المتحرش شاب يحضر لعرسه، ويحاول أن يؤكد بخفة ظل أنه مرتاح لأن الفيلم سيظهر بعد عرسه، لأن اللقطة التي مثلها من الممكن أن تغضب زوجته. هي كلها قصص قد تبدو على أيّ حال هامشية ضمن تسلسل عشوائي للحكاية الرئيسية وشكلت بالأساس الجانب الإنساني الذي يراد منه إيصال رسالة بأن ثمة من يحبون الحياة لكنكم لا ترونهم. لدى الفيلم الكثير ليرويه، وهو مصنوع بشكل يأسر متفرجه ويدمجه في حالة كل شخصية فيغدو شاهداً على مرحلة لم تقفل بعد، وهذا ما أوضحه أنضوني في نهاية الفيلم عندما أشار في عناوين النهاية إلى أعداد المعتقلين الذين ما زالوا أسرى في السجون «الإسرائيلية».