النظام السياسي الديموقراطي هو نظام المؤسسات. وهو يعتمدها في تسيير دواليب الحكم، وتدبير الشأن العام، وفق آليات اشتغال محددة سلفاً، ومتعارف عليها في مختلف أشكال الأنظمة الديموقراطية الحديثة، رئاسية كانت أو برلمانية، ملكية هي أو جمهورية. من بين هذه المؤسسات ما هو منتخب بطريقة دورية، ولمدة محددة وتتمتع بصلاحيات منصوص عليها صراحة في الدستور أو في أي قانون أساسي في مجالات التنفيذ والتشريع والقضاء، ومنها ما هو في صلب الهيكل الإداري الوظيفي الذي يتولى القانون الإداري تحديد مهامه وضبط اشتغاله ومراقبة الكيفية التي يتم بها الأداء العام لتلك الدوائر والمؤسسات. ويمكن القول، بصورة عامة، إن الثقافة السياسية الخاصة والموروث الثقافي والقيمي العام للشعب يلعب دوراً أساسياً وفعالاً في تحديد طرق تشكيل تلك المؤسسات وكيفية اشتغالها حيث تكون محصلة التجربة التاريخية مجسدة فيها. ومن جهة أخرى، فإن تطور نشاط المجتمعات الحديثة قد أدى إلى إقامة عدد من المؤسسات والمعاهد العليا ومراكز الدراسات والبحث المتخصصة المشهود لها بجديتها وقدرتها على صياغة التوصيات والمساهمة في توضيح الصورة التي يكون عليها الوضع في مجالات الاقتصاد والاجتماع والاستراتيجية والعلاقات الدولية ما يجعل التعرف إلى نتائج بحوثها والنظر في خلاصاتها وتوصياتها أمراً حيوياً في استيعاب كثير من الجوانب المهمة في حياة المجتمعات والتصرف على أساس ما هو جوهري من تلك الخلاصات أو التوصيات. وبطبيعة الحال، فإن صانع القرار السياسي والاستراتيجي، قد يكون بحاجة الى الاستعانة بأكثر من جهة، سواء بسبب تخصصها والخبرة التي راكمتها لجعل هذا القرار مستنداً إلى فهم أشمل لمجاله وتقدير أدق ما يمكن عناصره وتصور أقرب إلى الواقع لضرورات وشروط تطبيقه في المجال الذي يعنيه وانعكاساته على مجمل مرافق الحياة الوطنية الأخرى. أي أن اللجوء الى هذه الجهة أو تلك قد يكون أيضاً تعبيراً عن الرغبة في توسيع دائرة اتخاذ القرار من خلال توسيع دائرة التشاور وهو ما يمكن اعتباره عملاً محموداً وخطوة احتياطية يلجأ اليها صانع القرار الاستراتيجي لتفادي كل ما يمكن تفاديه من الأخطاء والانزلاقات الملازمة لكل عمل فردي او ممارسة محصورة في الدوائر الضيقة لمؤسسات صنع القرار. غير أن هذه الأخطاء والانزلاقات ليست حكراً على هذه المؤسسات بل يمكن أطر الحوار والتشاور تلك ان تتحول الى مصدر اساسي من مصادرها بخاصة عندما يتم التعامل معها كما لو كانت تنوب عن مؤسسات القرار الأصلية، لأن في ذلك تدميراً للفكرة الديموقراطية العميقة التي ينبغي أن توجهها، وإفساداً للسلوك السياسي، وقفزاً عن مبادئ النظام الديموقراطي وأهدافه وإفساداً لكل العملية السياسية في شكل إرادي. قد ينتحل هذا المسعى صفة ديموقراطية ظاهرية، غير أن مرماه الحقيقي، وهدفه البعيد، لاديموقراطي ومناهض للمنهجية الديموقراطية. ينبغي إذاً، مقاومة إغراءات هذا النوع من التكتيك السياسي الذي ظاهره توسيع دائرة التشاور والحوار الديومقراطي بين الدولة ومختلف مكونات الحياة السياسية إلا أنه ينتهي بالأحزاب السياسية المشاركة فيه الى المساهمة من حيث لا تدري، في بعض الاحيان، في تحقيق أهداف القوى غير الديموقراطية، والى لعب أدوار متواطئة مع بعض الأنظمة السياسية في إفساد العملية الديموقراطية في نهاية المطاف. ونظراً لدقة الحدود بين التشاور وبين اتخاذ القرار يمكن لعب أدوار غير محمودة في عمقها ونتائجها على رغم أنّ لا شيء تمكن مؤاخذته على شكلها. إن عمق المشكلة يكمن هنا في أنها تقوم مقام المؤسسات والهيئات ذات الصلة بالمواضيع المطروحة على جدول أعمال المجتمع وبخاصة منها تلك التي تم انتخابها لهذا الغرض. ولعل المراحل الانتقالية تشجع على اعتماد هذا السلوك بخاصة اذا رأت القوى المتصارعة على الساحة السياسية أن اتخاذ القرار داخل الهيئات الرسمية شبه مستحيل بحيث تكون مضطرة، بحثاً عن التوافقات المسبقة حول القضايا المطروحة الى اللجوء الى هيئات مستحدثة تحت مسميات عدة. صحيح أن لا ضير من حيث المبدأ في استحداث هيئات ومؤسسات تساعد على تخفيف حدة توترات المراحل الانتقالية لكن بشرط ألّا يتم تجاهل او تهميش المؤسسات الرسمية لا سيما المنتخبة منها. ويمكن ان نضرب مثالاً على ذلك باللجوء الى الاستفتاء الشعبي العام في بعض القضايا الحساسة. فإذا كان هذا الأسلوب الشكل الأسمى نظرياً للاستشارة الشعبية وتوسيع دائرة اتخاذ القرار لتشمل عموم الشعب الناخب، وعلى هذا الأساس ينظر اليه كشكل أرقى للممارسة الديموقراطية، الا ان الهدف منه قد يكون غير ديموقراطي عندما يؤدي الى إفراغ مؤسسات القرار من مضمونها وحرمانها من الصلاحيات التي يخولها لها الدستور وتحويل هذا الاستفتاء الى اسلوب يمكن التحكم فيه من خلال طبيعة السؤال الذي يتم طرحه، ومضمون الرسالة التي يتضمنها تنظيمه اصلاً. كأن تعني، ان الجواب بالإيجاب على السؤال المطروح والمصادقة على القرار الذي يتضمنه وترغب الدولة في تأكيده إعادة تكريس النظام السياسي القائم. والحال أن المسألة لا يكون فيها تطابق على الدوام مع حقيقة الواقع. ذلك ان النظام السياسي ليس اصلاً موضوع المعادلة المطروحة الا انه عندما ترغب السلطة اي سلطة في ترجيح كفة الموقف الرسمي يتم الإيحاء بأن التصويت ايجاباً هو بمثابة تجديد الولاء للنظام السياسي القائم بخاصة في الأنظمة غير الديموقراطية حيث تتعرض الاستفتاءات للتزوير في مختلف مراحلها حتى تنتهي الى النتائج المتوخاة منها منذ البداية وهو أمر مخالف تماماً لما عليه الأمر في البلدان الديموقراطية حيث إمكانية مساندة أو رفض المقترح الحكومي مفتوحة. وإذا كان من حق الأحزاب والمنظمات السياسية ان تتطلع الى ان تكون طرفاً في كل الاستشارات التي يتم اللجوء اليها، وهو أمر هام، في حد ذاته، الا ان السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو كيف سيكون عليه موقفها عندما تساهم في تحويل الهيئات المستحدثة الى غرف لاتخاذ القرار خارج المؤسسات القائمة أصلاً للعب هذا الدور؟ * كاتب مغربي