مر لبنان في تاريخه المعاصر بأزمات كثيرة ميزته عن بقية دول الإقليم، والتي، وإن لم يعرف عنها تحقيقها للإستقرار الناجز، عاشت ظروفاً يمكن وصفها بأنها أقل خطورة من تلك التي عايشها لبنان ومن حربه الأهلية، واحتلال أرضه، وتحولها في ما بعد إلى ساحة لصراع الآخرين. عبر لبنان مراحل مهمة من تاريخه بلحم أبنائه وتشريد قسم كبير ممن بقوا على قيد الحياة، لكنه استطاع أن يعيد نفسه إلى دائرة الحياة بقوة، وبذات الصيغة التي نشأ عليها: نمط حياة منفتح، تواصل مع الآخر، تطلع إلى غد أفضل. هكذا بدا لبنان في تسعينات القرن الماضي وهو يتحول إلى ورشة لإعمار بيروت بعدما سحقت حجرها وناسها آلاف أطنان البارود، وكانت الروح أيضاً، وعلى وقع خطوات الجسد العنيد الطالع من تحت الركام، ترمم ذاتها، وتمسك بالحلم. وبهذا بدا أن اللحم اللبناني لديه قدرة كبيرة على الشفاء من الجروح، فثمة مضادات حيوية تبعثها الروح في الجسد تعمل على إبرائه بسرعة. ولا شك في أن السر في ذلك يكمن في معادلة حب الحياة ومعرفة التمتع بها، وهي أيديولوجيا لبنانية بامتياز، تميز اللبناني عن محيطه العربي، وتعطيه خصوصية فريدة على المستوى الكوني، طالما تمت ترجمتها بمحبة واحتضان واحترام شعوب ودول العالم للبناني. وقد استطاع اللبناني المزنر بأحزمة حب الحياة حتى عنقه، التواجد دائماً على مسرح الفعل الإنساني وتجاوز كل محاولات الإقصاء والتهميش التي تعرض لها في تاريخه، ما دفع بالكنيسة الكاثوليكية (التي يفوق أتباعها البليون) إلى حد اعتباره رسالة تواصل ومحبة وسلام. لكن هل ذاك اللبنان هو ذاته الذي يغرق بشبر أزمة؟ يستطيع المراقب الجزم بأن لبنان تعرض لعبث كبير طاول عناصر صيغته وقتل روحه، وغير تلك الأيديولوجية الموصوفة، ما أدى إلى عطب جسده وتحويل لحمه إلى نوع عاطل سريعاً ما تفتك به الأمراض. أليس النزول من الجبال، وحلول الضاحية عنواناً لبيروت مكان شارع الحمرا، وتسيّد الوجوه الكالحة للمشهد... علامات على نجاح لبنان المذهل في عملية التكيف مع وقائع الإقليم السوداوية؟، وبالقدر نفسه، أليس كل ذلك مؤشرات لموت لبنان المتميز؟!. وهكذا فإن لبنان الذي ترسخ في المخيال الإنساني، طائر نورس يحلق بعد الفناء، يجري اغتياله، ليس بأطنان المتفجرات فتلك وصفة قديمة وخائبة طالما جربها أعداؤه كثيراً وما أفلحوا في تحقيق أهدافهم: فهو يموت بطريقة مبدعة، يمكن وصفها بالاجتراح، وذلك عبر هدم بنائه الروحي الفريد، وتفكيك لغز بقائه وخلوده القائم على تعدديته، وولعه بإنتاج المبدعين دوماً، وإسهامه في نشر الوعي في محيطه، وإسهامه في معترك الحضارة العالمي بنوابغه. تلك هي أسلحة لبنان الأكثر مضاء، وهي غير قابلة للصدأ أو لتقادم تكنولوجياتها، وهي أسلحة استراتيجية وعابرة للقارات، ومن دونها يتحول لبنان إلى كم فارغ وكتلة صماء وصغيرة غير قادرة على التميز ولا المنافسة. * كاتب فلسطيني