«منذ الآن، انتقلت السيطرة على الأرض إلى الفضاء الخارجي»، بتلك العبارة وصف الرئيس الأميركي السابق جورج وولكر بوش (الأب)، التغيير الاستراتيجي الذي رافق نهاية «الحرب الباردة» في تسعينات القرن الماضي. وصارت تلك المقولة جزءاً بديهيّاً من الآفاق الاستراتيجيّة إلى حدّ أنها لا تورد أحياناً باعتبار أنها أمر شائع ومعروف. إذا بحثت عن مثل يبرهن الصحة المستمرة لتلك المقولة، فليس لك أن تذهب أبعد من... كف يدك! بالأحرى، انظر إلى الخليوي الذكي الذي يكاد ألا يفارق كفك. الأرجح أنّه يحتوي على نظام «جي بي إس» GPS الشهير، أو ما يوازيه من نُظُم تحديد المواقع الجغرافيّة على الأرض. لربما يعرف معظم القرّاء أن تلك النُظُم إنما تستند في عملها إلى شبكات من الأقمار الاصطناعيّة التي تشرنق الأرض، بل تتفحّصها وتدقق بها ومن عليها، على مدار الساعة. عن... «الربيع العربي»! في ذلك السياق، لعله ليس خلواً من الدلالة أن الرئيس بيل كلينتون الذي حلّ في «المكتب البيضوي» بعد الرئيس جورج بوش، عمِل على نقل نظام ال «جي بي أس» من حصريّة الاستخدام العسكري، إلى تعميمه في الاستخدامات المدنيّة كلها. إذا كانت خليويّات الجمهور تحوي نظام «جي بي أس»، فالفضل إلى تلك الخطوة الكلينتونيّة. وإذا كانت الأجهزة الأمنيّة والاستخباريّة وشركات المعلوماتيّة وغيرها، قادرة على الحصول على معلومات لا نهاية لها عن حياة الأفراد زرافات ووحداناً، فإنما يرجع «الفضل» في ذلك الانكشاف المريع والمقلق إلى بيل كلينتون أيضاً! والأرجح أن شيئاً كثيراً من التداخل بين السياسة والتقنية، يحضر في بلد محمد بوعزيزي الذي ينسب إليه عموماً إطلاق شرارة «الربيع العربي»، بل إنّ كثيرين يعتبرون تونس نجاحاً نسبيّاً وازناً في مسار ذلك «الربيع» الذي رافقته تعثّرات مأسويّة في غير بلد عربي، خصوصاً في سورية والعراق واليمن. وتستعد بلاد «ثورة الياسمين» لعقد مؤتمر دولي عن نُظُم المعلومات الجغرافيّة- الفضائيّة. ولا تقتصر رؤية تونس للمؤتمر على الجانب التقني، بل تتخطاه لترى أنّ لتقنية المعلومات دوراً مهماً في التنمية المستدامة التي توصف بأنّها تطوير المجتمعات ومدنها وأرضها وصناعتها ونشاطاتها الاقتصاديّة والتجارية، ما يضمن نماء الحاضر والاستعداد لتلبية حاجات الأجيال القادمة. إدراكاً منها لأهمية ذلك التناغم الحيوي بين التقنية والمجتمع، دأبت «الجمعيّة التونسيّة للمعلومات الجغرافيّة الرقميّة» Tunisian Association for the Digital Geographic Information على تنظيم مؤتمر دولي سنوي عن تطبيقات نظم المعلومات الجغرافيّة والجيو- فضائيّة»، يحمل اسم «جيو تونس» Geo- Tunis. ويتمثّل الهدف الرئيسي لتلك المؤتمرات التي يشكّل مؤتمر عام 2017 النسخة ال11 منها، في خدمة منظومات البحث العلمي. وتدريجيّاً، صارت مؤتمرات «جيو- تونس» رافداً استراتيجيّاً للمؤسّسات التعليميّة والبحثيّة على المستوى الوطني، إذ تستعرض فيها أحدث البحوث والتقنيات في تطبيقات النظم المختلفة للمعلومات الجغرافيّة. نسيج لشبكات دوليّة عام 2005، تأسّست «الجمعيّة التونسيّة...» بوصفها منظّمة علميّة، يستند نشاطها الرئيسي الى الاهتمام بنُظُم المعلومات الجغرافيّة وعلوم المساحة والخرائط. وعبر سنوات عدّة، اشتهر عنها مثابرتها الدؤوبة في تحقيق أهدافها، خصوصاً عبر عقد الندوات والمؤتمرات وحلقات التكوين الأكاديمي والنشر الإعلامي. وترتبط باتفاقات تعاون مع عدد من المؤسّسات البحثيّة التونسيّة والعالميّة على غرار «الاتّحاد الدولي للجغرافيا»، و«الرابطة الدوليّة للكارتوغرافيا»، و«الفيديراليّة الدوليّة للمساحة»، و«الاتّحاد العربي للجغرافيا»، و«الاتّحاد العربي للمساحة»، و«الرابطة الأورومتوسطيّة للبحث العلمي والتجدّد التكنولوجي» وغيرها. ووفق ما يوضح الدكتور محمد العياري، رئيس تلك الجمعيّة، اعتمد مؤتمر «جيو- تونس» منذ انطلاقته، على طاقم علمي متميز، يتكوّن من نخبة من الأكاديميّين والخبراء. وتربط المؤتمر علاقات شراكة وتعاون مع عشرات المؤسّسات التعليميّة العربيّة والأوروبيّة والأميركيّة. ويجمع سنوياً مئات الخبراء والمختصين، وعشرات المؤسّسات والشركات والمنظّمات العلميّة والمهنية الدوليّة. وانتقل من مؤتمر يسعى لجمع البحّاثة في مجال معين، إلى اعتباره ثالثاً في الأهمية عالميّاً في مجاله، بعد مؤتمرات علميّة دوليّة مشابهة، خصوصاً «جيو- كندا» و «بروغيس» في ألمانيا. وليس خلواً من الدلالة أن «جيو- تونس» تلقّى قرابة 13 ألف بحث علمي خلال دوراته المنصرمة. ونشر إلكترونياً ما يزيد على 2400 بحث علميّ موثّق، كما نشر ورقيّاً ما يربو على 400 بحث علمي. وكذلك يرتبط «جيو- تونس» عبر شبكات إلكترونيّة، بقرابة 25 ألف باحث أكاديمي يتوزّعون على قرابة 70 دولة. وخلال السنوات الأربع الأخيرة، تصفّح موقعه الإلكتروني قرابة ال5 ملايين. وشارك في أعمال دوراته المتعاقبة ما يزيد على 2900 مشارك من قرابة 70 دولة، إضافة إلى نجاحه في اجتذاب مشاركة فعّالة لمؤسّسات دوليّة كبرى تنشط في مجال المعلومات الجغرافيّة والجيوفضائيّة. تجربة سعوديّة تتلبّث في الذاكرة من منظور التقنية الرقميّة، شكّل موسم الحج الماضي تجربّة سعوديّة متميّزة في تسخير المعلومات الجغرافيّة- الفضائيّة لإنجاح التعامل مع ملايين الحجيج الذين تدفّقوا إلى المملكة لأداء المناسك المباركة. ولعل الأبرز في تلك التقنيات كان استخدام السوار الإلكتروني لتتبع الحجيج جماعات وأفراداً، إذ احتوى شريحة رقميّة تختزن معلومات تتضمن اسم الحاج وجنسيته ورقم جوازه ورقم التأشيرة وعنوان السكن وأرقام الاتصال وغيرها. وكان مستطاعاً قراءة بيانات تلك الشريحة بواسطة أجهزة خاصة، ما يساعد على معرفة هويّات الحجيج وشخصياتهم، ثم تقديم المساعدة المناسبة لهم عند الضرورة. وكان السوار ينقل معلومات جغرافيّة عن موقع الحجيج، إلى شبكة مختصة كانت تستعمل أيضاً معلومات جغرافيّة- فضائيّة توفّرها نظم الأقمار الاصطناعيّة المكرّسة لذلك النوع من المعلومات. وبذا، كان المشرفون على الشعائر المقدسة قادرين طوال أيام الحج على تحديد موقع الأفراد والجماعات، إضافة إلى ملاحظة تنقّلاتهم وتحرّكاتهم وتجمّعاتهم، ما سهّل العمليات اللوجستية المتّصلة بالتحركات المطلوبة بين أمكنة أداء الشعائر. تعاونت وزارة الحج مع شركة «وادي مكة للتقنية» التابعة ل «جامعة أم القرى» في إنشاء نظام إلكتروني مرتبط بمنصة رقميّة موحّدة. وحقّق ذلك الأمر هدف متابعة الحافلات التي تخدم الحجيج التي زاد عددها على 16200 حافلة من أحجام مختلفة. واستخدم ذلك النظام الإلكتروني في تتبّع الحافلات في مكة والمدينة المنورة وجدّة. وكذلك دشنت الوزارة نظام الحواجز الإلكترونيّة لتنظيم حركة الحشود في الحرم، بهدف منع التدافع فيه. وشكّلت المعلومات الجغرافيّة- الفضائيّة حجر الزاوية في تجربة المملكة في تسخير تقنيّات رقميّة متقدّمة لخدمة الحجيج، لكنها لم تكن المكوّن الوحيد في تلك التجربة المهمة، إذ تضمّنت تجهيز مواد للتوعيّة عن الحج ومناسكه وشعائره ومواقيته، وضعت على مليون قرص مدمج، بل قدّمت أيضاً على 88 شاشة عرض تلفزيونيّة عملاقة، و138 لوحة إلكترونيّة إرشاديّة. معلومات عامة تحت شعار: «نظُم المعلومات الجغرافيّة والبيانات الجيوفضائيّة في خدمة التنمية المستدامة»، تنظّم «الجمعيّة التونسيّة للمعلومات الجغرافيّة الرقميّة»، بالتعاون مع «الاتّحاد العربي للمساحة» و «الاتّحاد الأوروعربي للجيوماتيكس»، بمشاركة دوليّة وعربيّة ومغاربية وأفريقية، المؤتمر الحادي عشر لتكنولوجيا وتطبيقات نظم المعلومات الجغرافيّة والجيوفضائية بين يومي 25 و29 نيسان (أبريل). ويتناول المؤتمر 4 محاور علمية هي: 1- التنمية المستدامة في مسائل التراب والأقاليم والأراضي. 2- المياه والتصحّر والتغيّر المناخي. 3- الطاقة ومشاكلها وحلولها والطاقات المتجدّدة. 4- الأمن والدفاع. وعبر تلك المحاور، يناقش المؤتمر ضمن ندوات وورش عمل متنوّعة، موضوعات مهمة عدّة، تشمل: المياه والتصحّر في ظل ما يواجه العالم، خصوصاً المنطقة العربيّة، من تهديدات طبيعية تتمثل أساساً في متغيّرات المناخ وما تتركه من آثار على الأمن والسلم المجتمعي، إضافة إلى مسائل تتعلق بتنمية القطاع الزراعي وتوفير الغذاء. الطاقة وتقويمها عبر ندوات ومداخلات الخبراء التي تشمل سبل تنمية قطاع الطاقة المتجددة بوصفه بديلاً اقتصاديّاً وبيئيّاً. بناء المدن والتخطيط الحضري والتحكّم في الشبكات. ويعرض المؤتمر بحوثاً عن إنشاء المدن والبنى التحتيّة ضمن المعايير الدوليّة. نظم المعلومات الجغرافيّة والاستشعار عن بُعد وتطبيقاتها في علم الآثار وإدارة الموارد الطبيعيّة. دور المساحة ونظم المعلومات الجغرافيّة في تحقيق التنمية والنهوض بالمجتمعات. المصادر الوراثيّة في الطبيعة ودورها في التنمية الاقتصاديّة. استخدام طائرات ال «درون» في إدارة الموارد الطبيعيّة ووضع خطط التنمية، في الزراعة والتخطيط والمسح العقاري والتغيّرات المناخيّة وغيرها. دور التكنولوجيا في تفكيك المنظومات الإرهابيّة، ووقاية البلدان من أخطارها، المحدقة، إضافة إلى مقاربات أمنيّة وفكرية عن الحلول المقترحة في ظل المتغيّرات الجيو- استراتيجية. ويشمل المؤتمر مجموعة من المعارض عن تقنيّات نظم المعلومات الجغرافيّة والجيو- فضائيّة. لمزيد من المعلومات يمكن زيارة الموقع الشبكي ل «جيو- تونس»: http://www.geotunis.org/ar