اندثر الخبر، وتقزّمت المعلومة، وانهزمت المعرفة بالضربة القاضية في استوديو الشرح والتفنيد. وبدلاً من وضع خط فاصل عريض بين الخبر والرأي، وبين المعلومة والاجتهاد، وبين التعريف والتفسير، إذ بهبة عارمة من التفسير والتفسير الآخر تُغرق الجميع مذيعين ومشاهدين وما بينهما من مسؤولين وصناع قرار وعاملين في قطاع الأخبار (سابقاً) قطاع التحليل (حالياً). «استوديو التحليل»! هذا الاستوديو الذي أتى على أخضر الخبر ويابس المعلومة، وأجهز على صدر النشرة الإخبارية وفتح أبواب التنظير والتحليل والتفسير على مصاريعها، حتى فقدت زمام السيطرة تماماً. وبدلاً من أن يكون البرنامج التحليلي فاكهة القناة، ينتظرها المشاهدون بفارغ الصبر ليثروا عقولهم، ويمتعوا فكرهم، ويحركوا مياه الأخبار الراكدة، إذ بالتحليل والمحللين والمتحايلين يحتلون الأثير ويطردون السكان الأصليين من صانعي الأخبار وكاتبيها وناقليها، ويعلنون قنوات كثيرة مناطق محررة من الأخبار حيث الحياد المفترض والموضوعية المعتقدة. وصار الأثير – معظمه أو كله- في قبضة استوديو التحليل. المتابع للخرائط البرامجية لمعظم القنوات التلفزيونية في مصر، يلاحظ انكماشاً واضحاً في نسبة المساحات الخبرية من نشرات وبرامج وفقرات قائمة على الخبر المنزه عن الرأي أو التفسير والتعليل والشرح، وذلك لمصلحة طوفان من كتائب التحليل وجيوشه الهادرة. ويبدو أن القائمين على أمر القنوات وجدوا أن أخبار المنطقة استقرت إلى حد إمكان التوقع، ومن ثم إمكان ملء هواء الأثير بكم هائل من التعليل والتفسير، فالأخبار في شكل عام تكاد لا تخرج عن إطارات محددة غير منوعة، حيث إما قتل وتشريد وتهديد، وإما تهديد وقتل وتفخيخ، أو في أحسن تقدير قتل وتفجير ولقاءات من أجل وقف التشريد. وما يستجد بات لا يخرج عادة عن أطر اجتماعات ولقاءات وزيارات ونفي أخبار كاذبة. وبين الكذب والصدق، والتضليل والإخلاص، والتلفيق والتحديد، والخطوط المتعرجة وتلك المستقيمة، تتأرجح برامج التحليل من كل شكل ولون وتخصص. فبدءاً بتحليل مباريات الكرة ومكونات الأطعمة والمشروبات، مروراً بتحليل الأفلام والمسلسلات، وانتهاءً بتحليل الشرق الأوسط الجديد والقديم والمستقبلي في حال استمر وجوده، يغوص المشاهد العربي في أغوار ما لذ وطاب (وربما ما لا يلذ أو يطيب) من صنوف التحليل المسيس والتعليل الموجه والتفسير المؤدلج والشرح المعقد لما يدور حوله من مباريات وطبخ ودراما وحوادث سياسية. سلطان كتائب التحليل ونفوذها الواضح وقوتها الجليّة تتحدث عن نفسها في كل مجلس شعبي أو لقاء أسري أو حتى نقاش عابر بين غريبين على الطريق. فالغالبية لا تتحدث عن خبر الأمس أو حدث الصباح أو هدف الفريق أو حتى تصريح الرئيس، بل الفحوى والإطار ما قاله المحلل أو ردده الخبير. قوام النقاش هو ما قاله فلان عن الخبر، وما أشار إليه علان عن الحدث، وما لفت إليه هذا عن الهدف المحرز، وما رآه ذاك في تصريح الرئيس. ومن ثم، فإن توجهات الرأي العام ترسمها استوديوات التحليل عبر إعادة التدوير. إنهم يحافظون على البيئة الخبرية ومواردها، على رغم وفرة واضحة وغزارة جلية ناهيك بأنها من الموارد المتجددة غير المعرضة للنضوب في المنطقة العربية. بمعنى آخر، رغم أن الأخبار تتواتر وتتقاطر وتتزاحم، لكنّ هيمنة استوديوات التحليل والتفسير تتعامل معها في أضيق الحدود معتمدة في شكل أكبر على بنات أفكار الخبراء والنظريات المبتكرة من رحم الحوادث وليس الحوادث نفسها. أما أحدث صرعات برامج التحليل فهو تحليل برامج التحليل. ولأن الحاجة أم الاختراع، والاختراع مهما كان غريباً أو عجيباً له بهاء ولا يخلو من دهاء، فقد بدأ بعضهم يجود في مجال التحليل. وظهرت برامج تحوي نصائح حول التفرقة بين التحليل الجيد والتحليل السيئ كنوع من الخدمة للمشاهد ليتمكن بنفسه من اكتشاف المعطوب. ويحوي هذا التوجه الجديد المندرج تحت بند «تحليل التحليل» نصائح منها: الاعتماد على أكثر من محلل يحللون الحدث أو الخبر أو حتى المباراة نفسها، وذلك لتكوين رأي يرتكز على مصادر تحليل واحدة وليس مصدراً واحداً قد يكون مسيّساً أو موجهاً أو مشجعاً لفريق على حساب آخر؛ التحقق من قيام المحلل بإضافة محسنات للرأي أو مجملات للتفسير؛ التمييز بين التعقل والاندفاع العاطفي لدى المحلل وهو ما يمكن تحديده بمتابع ملامح وجهه أثناء التحليل ولغة جسده ونبرة صوته. ضرورة البحث عن انتماءات المحلل ومعتقداته وذلك لمعرفة الدوافع التي تجعله يقول ما يقوله. كما يُنصح بالبحث في سابق تحليلاته وما أسفرت عنه من توجهات في الرأي العام، فإن كانت حسنة حسن تحليله، وإن كانت سيئة خاب تحليله. وهكذا، يتوقع أن تكون الصرعة الجديدة في عالم التحليل التلفزيوني هي ظهور برامج تحليلية لتحليل ما قيل عن التحليل، حيث إن التحليل لا يفنى ولا يستحدث من عدم. والمهم هو أن استوديو التحليل أعلن سيطرته الكاملة على غرفة الأخبار.