يندرج هذا المقال ضمن رسالة الدكتوراه التي أشرفت عليها وناقشتها في جامعة الجنان (طرابلس - لبنان) للطالبة كريمة أحمد عوض والتي كان موضوعها «الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في إشبيلية زمن دولة ابن عباد 1023 – 1091». ونظراً الى أهمية المعلومات التي تضمنتها فصول الرسالة، آثرت الإضاءة على العلاقات الفكرية لمملكة اشبيلية مع الحجاز، بلاد الشام، مصر والعراق. إذ عاشت المدن العربية الإسلامية القريبة والبعيدة مع بعضها بعضاً في ترابط وتوافق شملا كل نواحي الحياة فارتبطت بروابط تجارية واجتماعية، وأهم من ذلك الروابط الفكرية. وجاء هذا الارتباط عن طريق اتصالها بشكل مباشر وتبادلها للوفود العلمية. كانت مدينة إشبيلية إحدى أهم المدن الإسلامية التي لم تعش منفردة عن غيرها وإنما تحولت منذ القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر ميلادي إلى مدينة ذات كيان مستقل لها علاقاتها ومعاملاتها، وتطورت الحياة فيها من كل جوانبها فاستقبلت العلماء والفقهاء وطلاب العلم الوافدين عليها من مختلف الأمصار وخرجت منها كذلك أفواج متتالية من أبنائها من أجل طلب العلم. وفي هذا السبيل كانت لمملكة اشبيلية علاقات فكرية مع عدد من الأقاليم العربية والإسلامية منها الحجاز، وبالتحديد مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، إذ اعتبر الحجاز منذ القرن الثاني الهجري/الثامن ميلادي من أهم المراكز للعلوم الدينية حفل بالعديد من العلماء الذين ساهموا بدور كبير في الحركة العلمية وبفضلهم ظهرت فيه مدرستان مشهورتان تعلمان أصول الدين الإسلامي، هما: مدرسة القرآن والفقه في مكة، ومدرسة الحديث في المدينة التي وضع أساساتها الإمام مالك بن أنس (179 ه/796 م). ويضاف إلى أهميتها الدينية بروزهما وشهرتهما كمركزين فنيين وموسيقيين في مفارقة غريبة يعجز العقل عن استيعابها. ففي مكةوالمدينة ظهرت المدارس الموسيقية الأولى في الإسلام وبرزت في المدينة المغنية عجفاء التي وصل تأثيرها إلى بلاد الأندلس. كما كانت الرغبة في التزود بالعلوم الإسلامية وغيرها الحافز الأول الذي حمل الإشبيليين على السفر والقيام بالرحلات الطويلة من أجل السماع وإنماء معلوماتهم في مكة أو في دار الهجرة في المدينةالمنورة للالتقاء بعلمائها. كما توجه آخرون من المهتمين بالفنون والغناء إلى دور الفن والموسيقى للاستماع والاستفادة. والأشبيليون كما هو معلوم عنهم من أكثر المجتمعات حباً للشعر والغناء. ويميلون دائماً إلى تتبع كل جديد وتطور يطرأ عليه. ووجدوا في مراكز بلاد الحجاز للفنون والموسيقى ضالتهم وعادوا بعدها إلى بلادهم وقد نقلوا معهم علمها وفكرها وخصائص الفن الحجازي وثوراته الثقافية. وسار أبناء إشبيلية من طلاب العلم والفن على نهج من سبقهم داخل بلادهم إذ سافروا لغرض التزود بالعلوم والثقافات من منبعها مكةوالمدينة ليعودوا إلى إشبيلية وينشروا ما يعلمون، وكان من أولئك العلماء الذين وطئت أقدامهم مكة أبو حفص عمر بن الحسن الهوزني اذ جاءها بعد رحلة طويلة زار فيها مصر والشام والعراق. وتجدر الإشارة إلى أن الإشبيليين لم يأتوا الى الحجاز ليتعلموا فقط بل كان منهم معلمون تلقى العلم عنهم كثير من أهل تلك الجهات. فعلى سبيل المثال سمع أهل مكة من العلامة أبي عمر الداني (ت 444 ه/1053م) عام القراءات وإتقان القرآن وكانوا معتمدين على مصنفاته واثقين بفضله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء. وعن العلاقات الفكرية بين إشبيلية وبلاد الشام تقتضي الإشارة إلى أنه نشأت داخل بلاد الشام مراكز اشعاع علمية في مقدمها المسجد الأقصى في بيت المقدس والجامع الأموي في دمشق. وترتب على ذلك ازدهار العلوم الدينية وعلى رأسها علم الحديث وعلم الفقه كما اشتهرت في بلاد الشام العلوم العقلية منها مدرسة الطب ومدرسة الفلك والهندسة. ونتيجة لهذا التطور والازدهار الفكري داخل بلاد الشام فإنها كانت واحدة من أهم المراكز الفكرية التي تردد صدى شهرتها في المشرق والمغرب ومقصداً استقطب طلاب العلم من شتى الأصقاع، وأهم المحطات الفكرية التي توقف عندها مسير أبناء إشبيلية في شكل خاص والأندلس في شكل عام حيث رحل كثير من أبناء إشبيلية إلى بلاد الشام طلباً للعلم. ونتيجة لهذا التواصل العلمي، غدت إشبيلية من المدن التي يقصدها طلاب العلم لكونها مركزاً علمياً نشطاً وكان بين من وطئت أقدامهم أرضها بغية الإسهام في نشر العلوم أبو الفضل عبيدالله بن سعد بن علي بن مهران الدمشقي الذي قدمها سنة 416 ه/1025 م وكان من أهل العلم والفضل وله بصمة واضحة المعالم لروايته عن جماعة من العلماء في الحجاز والعراق ومصر والشام، كما قدمها عبدالملك بن محمد بن نصر الشامي الحمصي تاجراً وفيها سمع من بعض علماء الأندلس. وأما العلاقات الفكرية بين أشبيلية والعراق فكانت من خلال المنارات العراقية وأشهرها وجدت في الكوفة والبصرة وبغداد، إذ شهدت رقياً ملحوظاً في الحياة الفكرية، والكوفة والبصرة كانتا مركزاً مهماً من مراكز الدراسات اللغوية التي تدرس فيها أصول النحو والصرف. وقد برز الاهتمام بهما مصاحباً للتطور الذي نالته العلوم الدينية وظهور عدد من أبناء العراق النابغين في تلك المجالات. كما ضمت تلك المدن في كنفها عدداً من العلماء المختصين في العلوم الأدبية. أما بغداد فاشتهر فيها نوع من العلوم الجدلية المتطورة وهو علم المناظرات، ولعل أشهر من قدمها من أجل اكتساب أدوات هذا العلم والإحاطة بدقائقه هو الفقيه أبو الوليد الباجي. لقد كان العراق حقلاً خصباً لنمو ونضوج كل أنواع العلوم التي لاقت اهتماماً ورعاية من خلفاء بني العباس، وأثمر اهتمامهم بها على مدى قرون في جعل بلادهم مطلباً دائماً لجميع من سعى إلى العلم بشتى صنوفه. فكان أبناء إشبيلية من ضمن أولئك الطلاب الوافدين على العراق من أجل الدراسة والبحث في العلوم المختلفة، ونذكر منهم أبا عبدالله محمد بن سعيد بن إسحاق بن يوسف الأموي (430 ه/1039 م). ولم يقتصر طلبهم على العلوم الدينية واللغوية فقط وإنما اتسعت متطلباتهم العلمية إلى التزود بعلوم أخرى مهمة منها الطب. وفي المقابل وفد على إشبيلية عدد من أبناء العراق إما بقصد الفائدة والاستفادة أو بقصد التكسب من علمهم وأدبهم وشعرهم لشهرتها في استقطاب الأدباء والشعراء فكان من بين الوافدين أبو الحسن البغدادي المعروف بالفُكيك اشتهر بالإضافة إلى أنه شاعر بكونه مليح التندر، يضحك من حضر، وسريع البديهة والحجة وقد أوجد له ذلك قبولاً لدى مجتمع إشبيلية وحكامها. ومن بين الوافدين أيضاً أبو عمرو عثمان بن الحسن بن عثمان بن أحمد بن الخصيب البغدادي الذي قدم إلى الأندلس سنة 417 ه/1026 م وأقام في إشبيلية، مجوداً للتلاوة بالقراءات السبع عالماً بمعاني القرآن روى عن حلة البغداديين. كما كانت مصر من أهم المحطات التي كان لا بد لأبناء إشبيلية من المرور بها عند ذهابهم إلى المشرق الإسلامي أو عند عودتهم، فمصر تربطها بإشبيلية وشاج صميمة قوية، لذلك كانت نقطة مهمة لأبناء إشبيلية للنزول فيها والاستماع من بعض العلماء، ومما رغّب الوافدين في زيارتها والمكوث فيها اشتمالها على الكثير من التكايا المعدة لاستقبال الطلاب من كل أنحاء العالم الإسلامي. كانت مصر في ذلك الوقت وريثة المدينةالمنورة في علوم الحديث والسنة ومُتبنيةً مذهب الإمام مالك، فكان من بين الأندلسيين الذين قصدوا منارات مصر أبو عبدالله محمد بن مسرع الرُعيني (476 ه/1084 م) الذي سمع عن حلة علمائها. ولم تتوقف استفادة الإشبيليين من منارات مصر على العلوم الدينية، بل تعدتها إلى الاستزادة من معين الأطباء، ومنهم أبو مروان بن زهر الذي نزل مصر واستقر فيها زمناً طويلاً، ليس متعلماً فقط، بل وممارساً لمهنة التطبيب والمعالجة، كما سلك منهجه ابنه أبو العلاء حيث التحق بركب العلماء المتوجهين إلى مصر وهناك تعلم الكثير من أصول المهنة. كما لا يمكننا تجاهل دور بعض الطباخين المصريين من مستخدمي القصر الفاطمي حيث كانوا أشبه بالأساتذة في هذا المجال واستقبلوا بعثات ضمن مجموعات من الطهاة لتعلم بعض أصول الأكلات وأصول الطبخ المصري، وكان من بينهم متعلمون من إشبيلية أرادوا اتقان فنون الأكل المصري وطرقه لا سيما أن صنع الطعام وإعداده كان فناً متقدماً أيام الدولة الفاطمية لدرجة أن من أراد من أمراء الدولة المعاصرة للفاطميين أن يبلغ طهاته مستوى رفيعاً في إجادة فن الطبخ، كان يرسلهم إلى مصر ليتعلموا صنع الأطعمة فيها. كانت مصر كغيرها من الأمصار العربية الإسلامية التي وفد علماؤها على إشبيلية واستقروا فيها، نذكر منهم طبيباً يعرف بأبي العيناء استقر في اشبيلية والتحق بخدمة المعتمد بن عباد وساهم بقسط وافر في نشر المبادئ الطبية جنباً إلى جنب مع أطباء إشبيلية.