«يُرجى عدم الإزعاج» للمخرج الإيراني محسن عبدالوهاب والحاصل على الجائزة الفضية في مهرجان دمشق السينمائي الدولي الثامن عشر كان واحداً من أهم أفلام مسابقته الرسمية للأفلام الطويلة. لا يمكن وصفه بالعمل العظيم أو الكبير، لأنه شريط سينمائي سهل ويسير، من دون أية تعقيدات أو حوارات فلسفية، ومع ذلك لا يخلو من عمق المشاعر وجمال الرؤية. يُمكن وصفه بالسهل الممتنع. تتحرك فيه الكاميرا المحمولة بسلاسة وخفة لتبث فينا توتراً يغلف الشخصيات والأحداث. يستمد الفيلم قوته وخصوصيته من بساطة المعالجة السينمائية وطبيعتها، من قدرة مخرجه على تقديم حكايات شبه عادية نعايشها يومياً بأسلوب سرد سينمائي مغاير مشدود الإيقاع، مستعيناً بالخط الكوميدي وخفة الظل والسخرية المتكئة على المفارقات، معتمداً على الحوار بدرجة كبيرة من دون إغفال أهمية الصورة. حوار الفيلم تلقائي رشيق يكشف خلفيات سلوك أبطاله ومنبع بعض مشاكل المجتمع الإيراني التي يمكن تعميمها على كثير من المجتمعات لما فيها من صبغة إنسانية. هو من دون شك فيلم يحمل رسالة إنسانية وأبعاداً درامية، ويبحث في جماليات لا تعتمد على الإبهار. ينتقل السرد السينمائي من حكاية إلى أخرى عبر الصدفة التي تجمع الشخصيات في أماكن واحدة. يحكي في شكل أساسي ثلاث قصص عن خمس شخصيات رئيسة تتخللها حكايات فرعية وشخصيات أخرى ثانوية. يتناول مواضيع شتى، للمرأة حظ وافر منها، إذ يطرح قضية ضرب الزوجات وانتهاك حقوقهن حتى في الأوساط الثقافية، وإشكالية ارتباط النساء المتقدمات في السن بشباب أصغر منهن، فيثير تساؤلاً استنكارياً عن علاقة الحب بالسن؟ يطرق مشكلة ترك الأبناء لذويهم العجائز واختفاء أواصر المودة والرحمة، ومن ثم حالة الرعب والخوف الشديد عند كبار السن جراء عزلتهم. لا يغفل العمل مشكلة البطالة التي أصبح يُعاني منها كُثر من مختلف الأعمار. يُحذر هامساً بأسلوب كوميدي من مخاطرها وما يُمكن أن ينجم عنها من تدمير للأسر وللروابط الإنسانية. على رغم عنوانه الذي يُحيل إلى تلك الجملة المدونة على لافتة تُعلق على أبواب الغرف في الفنادق «يُرجى عدم الإزعاج»، فإن لا علاقة للفيلم بالفنادق من قريب أو بعيد. إنه يحكي عن المشاكل التي تزعجنا وتزعج الآخرين. من خلف باب موصد في وجوهنا نسترق السمع إلى الحكاية الأولى. يأتينا صوت عراك وبكاء. ما أن يُفتح الباب حتى تتدفق التفاصيل بسيولة وخفة ظل. مذيع تلفزيوني شهير، لبرنامج «توك شو» قائم على المسابقات، يقوم بضرب زوجته الشابة لأنها تُصر على أن يصطحبها إلى حفل زفاف صديقتها الحميمة. يسمح لها بالحضور من دونه شريطة ألاَّ تُلتقط لها صور بصحبة الرجال. تخرج الزوجة غاضبة باكية. يطاردها الزوج محذراً إياها بأنها ستدمر زواجهما الذي لم يمر عليه ستة أشهر. أمام عناد الزوجة يتحول التهديد إلى رجاء وتوسل بألاَّ تذهب إلى بيت والديها حتى لا تُفسد صورته أمامهما. يحاول الزوج تقديم التبريرات لفعلته المشينة، مؤكداً أنه ليس استثناء بين الرجال، فمنذ العصر الحجري تُضرب المرأة، حتى في القرن العشرين كان الرجل لا يزال يضرب المرأة، حتى وسط المثقفين لا يخلو من مثل تلك التصرفات. مع ذلك ينتهي إلى الإقرار بأنه في حاجة إلى إصلاح ثقافي. تُصر الزوجة على تسجيل محضر ضده في مركز الشرطة. يحاول منعها من دون جدوى. أمام قسم الشرطة يُؤكد له العسكري أن هذا المكان يزوره المشاهير من الفنانين ولاعبي كرة القدم، ثم ينصحه بشراء الهدايا لزوجته، لكنها حتى بعد شراء فستان سهرة لها تُصرّ على الذهاب إلى النائب العام مشددة على أهمية ما تفعله لأنها تقوم بإصلاحه ثقافياً. طوال الحكاية الأولى يكشف السيناريو، عبر تفاصيل دقيقة سريعة، عن مشاكل أخرى مزعجة منها الضريبة الفادحة للشهرة، حيث تُنتهك الخصوصية ويفقد أصحابها حريتهم الشخصية. يكشف أيضاً تفاهة برامج «التوك شو» وسطحيتها وقيامها بدور خطير في تسطيح الناس. ينزع الغلالة عن رغبة الزوج الشرهة في تكوين ثروة وشراء منزل وفيلا وتحقيق رخاء مادي، فذلك أهم من مصاحبة رفيقته، في حين ترغب الزوجة في علاقة إنسانية قائمة على الود والحب والتواصل حتى في ظل ظروف مادية معقولة. تطلب منه أن يعود إلى عمله كصحافي، أن يعود للتعبير عن رأيه ومشاعره إزاء ما يحدث في مجتمعه، فقد كان يلعب دوراً اجتماعياً لكنه تحول الآن إلى ببغاء. شيخ وقور غير مُحصن تبدأ الحكاية الثانية من اللحظة التي تستقل فيها الزوجة سيارة للأجرة كان أوقفها شيخ وقور لنفسه ثم تنازل عنها لها. يستقل الشيخ، نعرف لاحقاً أنه مأذون من أصول شريفة، تاكسي آخر يقوم سائقه بمطاردة المذيع لأنه كاد يدهسه وتطاول عليه. يظل السائق ثائراً لاعناً الشهرة متوعداً الزوج مطارداً إياه في شوارع المدينة حتى يكاد يتسبب في وقوع حادث، بينما يُواصل الشيخ الوقور تهدئته ونُصحه. نكتشف في مشهد لا يخلو من دلالة رمزية بليغة، أن هذا الشيخ بكل إيمانه العميق وتقواه وأصوله الشريفة هو نفسه غير محصن، فبسبب حقيبته المثقوبة سُرق هاتفه وحافظته بما فيها من أموال وأوراق ثبوتية تخص زبائنه. في مكتبه، يجد المأذون رجلاً وزوجته وأولادهما الثلاثة في حالة عراك متقد أثناء انتظاره للانتهاء من إجراءات الطلاق. يطلب منهما الانصراف والتروي وإعادة التفكير. كما يرفض تزويج شاب عشريني بامرأة أربعينية ثرية بحجة أنه زواج مغرض غير متكافئ، متغاضياً عن توسلات المرأة، رافضاً بحزم عرضها المالي المُغوي بينما هو في أزمة مالية عاتية، إذ إن أمواله المسروقة كانت مخصصة لدفع إيجار المكتب، كما أن السارق يبتزه بمبلغ ستة ملايين حتى يُعيد اليه أوراقه الثبوتية. الحق على العزلة تبدأ المساومات بين المأذون واللص عبر حوار هاتفي متوتر سريع. أثناء ذلك تبدأ الحكاية الثالثة عندما تدخل سيدة مُسنّة تسأل عن صاحب المحل المقابل ثم تطلب من الشيخ أن يُبلغه رسالة بخصوص المستأجر الجديد لشقتها. ما إن تخرج المرأة العجوز حتى تُلاحقها الكاميرا إلى بيتها حيث تعيش وحيدة معزولة مع زوجها المسن الغائب عن كل ما يدور حوله. نعرف بعض مشاكلهما معاً قبل أن يدق جرس الباب الخارجي عامل إصلاح التلفاز جاء حاملاً طفلته الرضيعة. ترفض المرأة المسنّة أن تسمح له بدخول الشقة خوفاً من أن يكون لصاً. بعد توسلات العامل وشرحه حكاية انفصاله عن زوجته يرق قلب المرأة للطفلة الباكية فتقوم بتغيير حفّاضها وتُعد لها وجبة طعام. يقوم العامل بإصلاح جهاز التلفاز من خلف الباب الحديد في مشهد كوميدي يكشف كيف تغرس العزلة الإحساس بفقدان الثقة في الناس، وتتحول إلى سجن لا يُطاق. يختتم المخرج فيلمه بلقطتين محمّلتين بالدلالات في الأولى. نرى المأذون على رصيف محطة المترو في انتظار القطار ينصح والدة اللص ويُعلمها التجويد. في اللقطة الأخيرة تذهب الزوجة بصحبة زوجها إلى حفل الزفاف بينما تحوم سيارة الشرطة حول المكان فتُثير الاضطراب في قلوب الضيوف والحراس.