الرئيس السوري يزور مقر سدايا ويطلع على آخر ما توصلت إليه المملكة من تطور في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي    اليابان تطلق صاروخًا يحمل قمرًا صناعيًا لتحديد المواقع الجغرافية    5 مخاطر صحية تهدد العاملين بنظام المناوبات    90 طالباً يستعرضون بحوثهم الدفاعية في ملتقى جسر    أمير المدينة يرعى حفل تدشين قاعة المؤتمرات الكبرى بغرفة المنطقة    "سلمان للإغاثة" يوزع 500 سلة غذائية في عدة مناطق بجمهورية بنغلاديش    عبدالله آل عصمان مُديراً لتعليم سراة عبيدة    الذكاء الإصطناعي وإدارة العمليات الطريق إلى كفاءة مؤسسية ناجحة    14 مليار ريال ضمانات تمويل للمنشآت الصغيرة والمتوسطة    ترمب يفرض رسوماً جمركية على كندا والمكسيك والصين    العلاقات بين الذل والكرامة    مواقف تاريخية للسعودية لإعادة سورية لمحيطها العربي    رصاص الاحتلال يقتل المسنين وعشرات يقتحمون الأقصى    أوكرانيا وروسيا تتبادلان الاتهامات بشأن قصف مدنيين    سورية المستقرة    المبعوث الأميركي: نؤيد انتخابات أوكرانية بعد "وقف النار"    النصر يتحدّى الوصل والأهلي في مهمة عبور «السد»    ولي العهد والرئيس الشرع يبحثان مستجدات الأحداث وسبل دعم أمن واستقرار سورية    في الجولة ال 20 من دوري" يلو".. الصفا يستقبل العدالة.. والبكيرية يواجه الجبلين    الأهلي يعير «ماكسيمان» لنابولي الإيطالي    الساحر «لوكا» إلى نادي الأساطير.. الصفقة العظمى المحيّرة!    وعد من أوناي هرنانديز لجماهير الإتحاد    القيادة تعزي أمير الكويت والرئيس الألماني    توقيع مذكرة تفاهم «الجسر السعودي-الألماني للهيدروجين الأخضر» بين «أكواباور» و«سيفي»    أمانة جدة تشرع في إشعار أصحاب المباني الآيلة للسقوط بحيي الفيصلية والربوة    6 مذكرات تعاون لتطوير الخدمات الصحية بالمدينة المنورة    محافظ جدة يطلع على خطط المرور والدفاع المدني    الانحراف المفاجئ يتصدّر مسببات حوادث المرور في الرياض    كلنا نعيش بستر الله    التعاقدات.. تعرف إيه عن المنطق؟    من أسرار الجريش    تحت رعاية خادم الحرمين.. جائزة الأميرة صيتة تكرم الفائزين بدورتها الثانية عشرة    انطلاق ملتقى قراءة النص في أدبي جدة    إن اردت السلام فتجنب هؤلاء    التحليق في عالم متجدد    «عاصفة الفئران» تجتاح 11 مدينة حول العالم    ..وتجمع جازان الصحي يتميز في مبادرة المواساة    طريقة عمل ارز بالكاري الاصفر والخضروات وقطع الدجاج    الرياضة المجتمعية.. جزءٌ لا يتجزأ من رؤية السعودية 2030    شرطة الرياض تقبض على مقيم لمخالفته نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    على هوامش القول.. ومهرجان الدرعية للرواية    هيئة الترفيه.. فن صناعة الجمال    محمد عبده.. تغريدة الفن....!    التقنية ونمو القطاع العقاري !    كاد «ترمب» أن يكون..!    3 أهداف تتنافس على الأجمل في الجولة ال18 من مسابقة دوري روشن للمحترفين    مكالمة إيقاظ صينية عنيفة !    سمو محافظ حفر الباطن يدشن مؤتمر حفر الباطن الدولي الصحة الريفية في نسخته الثانية    أمير جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة العيدابي    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية السودان لدى المملكة    القيادة تعزي رئيس ألمانيا في وفاة الرئيس الأسبق هورست كولر    أمير الشرقية يدشن النسخة الثامنة من جائزة السائق المثالي    أمير تبوك يواسي أسرتي الطويان والصالح    مختص : متلازمة الرجل اللطيف عندما تصبح اللطافة عبئًا    الأسرة في القرآن    ذكور وإناث مكة الأكثر طلبا لزيارة الأبناء    خيط تنظيف الأسنان يحمي القلب    تفسير الأحلام والمبشرات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة - وداعاً
نشر في الحياة يوم 23 - 11 - 2010

استيقظت متأخراً. الشمس تضع قدمها على عتبة النافذتين. أماندا نائمة. على ملامحها تعبير ميت. لعلها عادت على مشارف الصباح. أتذكر طرفاً مما حدث. لم أكن أفكر في أمر محدد. كنت أقرأ داخل غرفة المكتب بلا مبالاة بعضاً من تلك الرسائل التي ظلّت ترد إلى بريدي الإلكتروني من منفيين غرباء لا يزالون يكابدون شظف العيش في القاهرة. كانتا، أماندا ومليسيا، كبرى شقيقاتها، تستعدان للذهاب وحدهما إلى أحد الملاهي الليلية. مليسيا، لا تصلح لأن تكون حجر الزاوية في بناء بيت. تركتْ في معية زوجها أربعة توائم. وتفرغت تماماً لمغامراتها. لا أتذكر لها لحظة حنين، مثل الضيف، ألقى برحاله بين قوم مجهولين ورحل صوب المجهول بلا ذكرى، بلا شوق، بلا قلب يهفو لنداء يتلمس طريقه بحثاً عن أمومة غائبة. لعلها في هذا تسلك مثلما أسلك مع وجوه الماضي البعيد.
كان لدي شعور غامض أن طريق أماندا لن تفضي في النهاية إلى شيء. أذكر أنني اعتذرت عن عدم مرافقتهما. كنت مُتعباً. مرأى أماندا وهي نائمة الآن إلى جواري يخبرني أنني لا أزال أسيراً لتلك الهواجس. طبعت على جبينها قُبلة. سرت صوب الحمام. تعودت على عادة ترك باب الحمام مفتوحاً. وقد بدأت أتفهم إلى جانبها أن التوحد بستان ينطوي على الاختلاف والعزل بين أنواعه يُميتها. شيء ما جعلني أوصد الباب هذه المرة. كما لو أن روحاً غير مرئية تتربص بي الدوائر في مكمن ما داخل الشقة. أخيراً، أنهيت تنظيف أسناني بينما أدندن بموشح أندلسي قديم: «أيها الناس فؤادي شَغِف/ وهو في بَغيِ الهوى لا يُنصِف».
هذا يوم سبت آخر. في الوقت متسع إلى أن تستيقظ أماندا. كنت أسير نحو المطبخ المفتوح على الصالة، محكوماً بالرغبة في صنع كوب من القهوة، لا شيء يعكر صفو الهدوء، سوى أزيز الثلاجة. فجأة وقعت عيناي على رجل. كان ينام على الكنبة. بنظرة، أدركت ما حدث أثناء نومي. كنت أواجه تحديات وجودي كرجل للمرة الأولى. أسود البشرة، طويل القامة، في نحافته شيء من تواريخ الفقر المدقعة وراء البحار. لاح داخل ضوء الصباح المتأخر الكثيف واثقاً غير هيّاب. لا بد أن لديه وقتاً كافياً لخلع ملابسه وارتدائها على نحو لم يفقده أناقته. فتح إحدى عينيه. لم ينسني هول الصدمة أن أرد على تحيته الصامتة بإيماءة. يا للسخرية، قمتا الوقاحة والتهذيب في موقف لا يحتمل الجمع بين النقائض. تركتُه يواصل نومه.
لم تجتاحني ثورة الأعماق، ولا غلت الدماء داخل عروقي، لم أطلب ثأراً من غريمي، لم أقم بتقديم دمها على مذبح الغيرة، لم ألتهب حتى بقصائد الشرف الرفيع. وجدتني بعدما أيقظتها أقف على رأسه. أذكر أنه اعتدل من نومته جالساً كما لو أنه كان ينتظرني. قلت له بصوت ميت «اخرج الآن من بيتي». بدا متردداً وهو يتقدمني بخطوة. يا للوقاحة، أخذ يصلح ما فسد قليلاً من ردائه. ثم توقف داخل الطرقة. لكأنه يهم بوداعها وراء باب غرفة النوم الموارب. «من هنا»، كنت أشير إلى باب الشقة.
وجدتها مرتدية ثيابها. لا تزال تحدق إلى الأرض. دعوتها للحضور إلى غرفة المكتب كما لو أنني بصدد اجتماع رسمي. هناك، حاولت الحديث عن «الشرف». لم أفلح. رفعت رأسي بصعوبة. كما لو أنني أراها للمرة الأولى. بكتْ، انتحبتْ، توالت دموعها حتى خلت أنها لن تتوقف. جسدها الذي أعرفه جيداً أخذ ينتفض بشدة. كنت أجلس وراء المكتب الخشبي مواجهاً نافذته الزجاجية. كانت قابعة إلى يسار المكتب. على بعد لمسة مني. قالت «ليس لدي ما أدافع به. لو تنشق الأرض الآن وأغوص داخلها. ما حدث حدث. ليس بوسعي تغييره». قلت: «كم من الوقت يلزمك لحزم حقائبك والرحيل من هنا، يا أماندا؟». قالت «القليل». بعد لحظات مشحونة بالصمت المعدني نفسه «أريدك أن تعلم أنني لم أحب من قبل رجلاً آخر مثلما أحببتك أنت ولا أزال. قد لا تصدقني. لكنها الحقيقة. وما حدث كان مجرد غباء. لا أدري، يا وليم». من جوف تلك الإطراقة الأسيانة «سأحضر للملمة أغراضي ريثما تهدأ قليلاً». في جلستي تلك، وصوت باب الشقة يفتح ويغلق، اجتاحني شعور لا نهائي بالوحشة. لكأن شيئاً زحف في داخلي ومات. ظللت بعدها لثلاث ليال لا أكلم أحداً، لا أحد يكلمني. ظهر اليوم الرابع، بدا كما لو أنني قمت بتصفية أحزاني. كنت مجرد صفحة بيضاء.
كان العصر يقترب من نهايته، عندما أخذ يتناهى بوق بإلحاح غريب من أرض خلاء تقع غرب البناية مباشرة. خيل إلي كما لو أنني أسمع صوتها. حين نظرت أستطلع الأمر عبر إحدى نوافذ الصالة رأيتها بالفعل. أشارت لي بمقابلتها في الأسفل. هناك، تبينت وجود ثلاث فتيات كن بصحبتها. قالت إنها حضرتْ كي تسلمني النسخة الإضافية من مفتاح الشقة. وقالت بغموض إنني لم أستيقظ لحظة أن جاءت ليلاً لأخذ ما تبقى من متعلقاتها الشخصية وإنها لم تؤذني لأنها لا تزال تحبني. كنت أنصت في شرود. لم يثرني مرأى السيارة التي تقودها. بل طريقتها العملية في الكلام. لكن صوتها لأن فجأة وتكسرت قساوته. قالت وهي ممسكة بباب العربة وقدم على الأرض وأخرى بالداخل:
«وليم؟، أهذه هي النهاية»؟.
أومأت برأسي.
«أكل شيء انتهى»؟.
أشحت بوجهي بعيداً:
«لم يُترك لي خيار».
«يا إلهي، ما زلت أحبك».
«مع السلامة، يا أماندا».
في تلك الفسحة الخالية، وقفت أرقب العربة وهي تندفع محدثة صريراً عالياً، تابعتها وهي تنحرف صوب شارع سيرجنت القريب، وحين اختفت وتوارى هديرها في عمق الهدوء الحزين للغروب، أدركتُ بشيء من الحياد أنه لم يعد لي «بعد اليوم» بقاء «في هذه المدينة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.