صاحب الخيال المجنّح عاصم ستيتيّه، الفنان الغائب سنين طويلة عن فضاء معارض بيروت، المقيم في حجرات ذاكرته التي لا يعرفها أحد، المنكفىء على أمجاده التي حققها كواحد من أبرز المُحدثين في التجريد اللبناني، تقيم له نادين بكداش معرضاً استعادياً في غاليري جانين ربيز (حتى 11 أيار-مايو) يسلط الضوء على مساره الفني ما بين عامي 1960- 2014، في مبادرة استثنائية لإعادة اكتشاف الحلقة المفقودة من عقد التجريديين اللبنانيين على تنوع أساليبهم وانتماءاتهم وابداعاتهم التي صنعت الضفة المتقدمة من ثقافة العصر الذهبي لفنون بيروت. استطاع عاصم ستيتيّه أن يقطف سريعاً شهرته في الستينات ومطلع السبعينات من القرن العشرين، لا سيما بعد نيله جوائز في معارض دولية أقيمت في إيطاليا، إلا أنه صمت بعد هذا النجاح القصير أربعين عاماً، وظل بعيداً من المعترك الفني حتى اندثرت أخباره، منسحباً إلى عزلته الظليلة القاسية، وإلى ميدانه الاختصاصيّ في مجال الهندسة الداخلية، فكان له الفضل في تخريج أجيال من الفنانين والمهندسين، أثناء تولّيه التدريس في محترفات معهد الفنون - الجامعة اللبنانية. تفتحت موهبته في سن مبكرة على مفردات الأشكال في الطبيعة فزاول الموضوعات الواقعية في بادىء الأمر قبل أن يغوص عميقاً في مسائل اللون والخط والتقنيات، سبيلاً لإدراك المفاهيم الروحية للتجريد. عرفت أعماله طريقها إلى ذائقة كبار المثقفين من أدباء وشعراء وفنانين لبنانيين عموماً وفرنسيين خصوصاً، من جراء الموقع الذي شغله شقيقه الناقد والشاعر بالفرنسية صلاح ستيتيّه، أثناء توليه إدارة مجلة «الأوريان الأدبية والثقافية». العصامي الذي تمكن من ترويض أحلامه، عبر تمارين تستمد جذوتها من انتسابه إلى التجريد الغنائي الذي يعتمد على جمالية السرعة والمغامرة والحدس. عرف عاصم ستيتيّه كيف يصالح بين إلهامات عينه واندفاعات ريشته وكشوفاته التقنية (ملامس ناتئة وعجائن وزيوح لونية)، في إيجاد مناظر كونية ذات طبيعة شاعرية، نثر فيها الأشكال كالنجوم والمذنبات في فضاء المجهول. وقد وصف الناقد رينيه ميشا أسلوبه بأنه على جانب من الخصوصية، على رغم تأثيرات كاندنسكي وكلي وميرو. وعام 1960 كتب معلم الأجيال الفنان جورج سير «بأننا إزاء موهبة لا يمكن التغاضي عنها، نظراً إلى ما يملكه هذا الفنان من مهنية وحرية وخيال تُبقي عمله مطبوعاً بطابع الشباب... في نتاجه ثمة انتماء لمدرسة باريس أما الجانب الآخر فهو ذو اتجاه زخرفي». ربطت أعماله في الستينات، بين التجريد والنظام النغمي اللامنضبط في مرحلة سميت ب «اللانغمية الحرة»، تجلت فيها قدرته على استنباط الأشكال الهندسية وفق صوغ لوني إيقاعي وحركي متنوع وعاصف وانفجاري، يستعير مفهوم الارابسك للتعبير عن كرنفالات نغمية تحتدم كي تفضي إلى عوالم شعرية يمكن تسميتها اللحن التجريدي المرتجل. وإذا كانت «الحرية هي الفراغ» وفق جورج ماتيو، وهي «الكتابة البيضاء» المستوحاة من تأملات الحروف اليابانية في فضاءات مارك توبي، فإنها بالنسبة إلى عاصم ستيتيّه، فضاء يشع بالمفرقعات النارية والطقوس الإحتفالية، وهو يجمع بين التجريد الشرقي- الزخرفي وبين حمّى التلقائية وسرعة اليد وتوقد الحركة، وهي مقومات التجريد الغربي الذي يعود لخمسينات القرن العشرين، مع أسماء بارزة من أمثال فولز وتوبي وميشو وريوبيل وسام فرنسيس. هكذا وصلت مباحثه في جماليات التجريد إلى حرية اللعب والمراوغة والتلطيخ والتنقيط والكتابة الغرافيكية. تلك الكتابة التي تلبّست ولو من باب الإيحاء مظهر الحروف العربية في مرحلة صعود الاتجاهات الحروفية في نتاج التشكيليين العرب. يشكل المعرض إطلالة مدهشة على حقول التجارب المنسية لعاصم ستيتيّه، الذي لم يتمكن أن يكون من العشر الأوائل في عصره، ولكنه ترك بصمته الخاصة وهواجسه حين اخترع لنفسه عالماً عجيباً من الأشكال والألوان والرموز والدلالات، يشع فرحاً وصخباً وشعراً ونغماً وإرتجالات.