الطائفية بنية سياسية مركبة شديدة التعقيد في تكوينها الداخلي وتركيبها الاجتماعي والسياسي وفي بناء شبكة علاقاتها الداخلية والخارجية من حيث توزيع المهام والوظائف السياسية وتقاسم المصالح والنفوذ للفئات الاجتماعية الفاعلة فيها. فهي تنتعش في ظل أزمة وطنية عميقة أو مشروع سياسي مدني أو دولة معاصرة، منفتحة على القوى والفئات الاجتماعية المتعددة، التي تشمل كل أطياف المجتمع. فهي علاقة سياسية ما تحت وطنية، ما تحت سياسة، علاقة مشبوهة، مشوهة بين أبناء النسيج الوطني الواحد. هي حالة انكشاف وتعرية للواقع الاجتماعي والسياسي في بلادنا، عدم قدرته على التصالح مع ذاته أو في التعبير عن نفسه سياسياً واجتماعياً في شكل سوي. فالطائفية مفهوم سياسي غامض وملتبس ودخيل على السياسة والفكر، وهي تنتعش وتعيش في البلدان ذات التكوين الاجتماعي المخلخل، المتخلف في بناه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. أو هي تعبير حقيقي عن تأزم المجتمع وانسداد آفاقه، في انفصاله عن ذاته، عن العالم الحديث سياسياً وثقافياً وقانونياً، عن واقعه، عن علاقاته الطبيعية في حدوده السياسية. البلدان التي ابتليت بالطائفية، ضاعت منها نهائياً فكرة المواطنة ودولة القانون والمجتمع المدني لمصلحة الهشاشة الاجتماعية والعزلة الفكرية والفلسفية. فالطائفية تستند في عمقها على البعد الديني والإثني، وهي العلاقة السياسية الأكثر انطواء على الذات والأكثر قلقاً على وجودها. تنتعش في ظل غياب الدولة المدنية اللاحمة، الضامنة العلاقات الاجتماعية، والقادرة على ربط المجتمع بها وتأمين مصالح جميع الفئات الاجتماعية من دون تمييز. فالطائفية السياسية قادرة على العيش والبقاء في ظل بناء سياسي ماضوي قائم على غياب الانتماء الوطني والانفصال عن اللحمة بين الجماعة الوطنية الواحدة. فهي شبكة من التحالفات السياسية المزيفة والانتماءات الهشة والضيقة، أي هي علاقة زبونية منفعية، تغلب عليها الذاتوية والنرجسية، وتقوم على جملة تحالفات داخلية وخارجية مشبوهة، هشة، تتغذى منها وعليها، وتنتعش في ظلها من أجل تأمين الشروط الأكثر نفعية لمصالح الفئة الاجتماعية النافذة. أي هي وظيفة سياسية موقتة، تنمو في ظل غياب دولة ذات بنيان وطني حديث ودليل على هشاشة الدولة وضعف هيمنتها وسيطرتها على المجال الوطني. فالدولة الضعيفة مثل الجسم المريض مدخل للعبث فيها من قبل قوى سياسية لا يهمها إلا مصلحتها السياسية والشخصية على حساب النسيج الاجتماعي والدولة. وليس بالضرورة أن تتحول الطائفية إلى علاقة سياسية واضحة، فمن الممكن أن يكون ميدانها اجتماعياً، أي علاقة بين جماعة اجتماعية منحدرة تاريخياً ترتبط ببعضها عبر علاقة الدم والقرابة تستخدم السلطة لمنفعتها من أجل الحصول على المال العام والنفوذ بطريقة سريعة. ففي البلدان التي تبتلى بالطائفية تجعل مجتمعاتها مزعزعة، وغير مستقرة سياسياً وأمنياً وتتحول إلى عائق أمام التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ما يجعل هذه البلدان تدفع أثماناً غالية من حسابها الذاتي في الانشغال بمشاكلها الاجتماعية، بل تتحول إلى ورقة للقوى الإقليمية والدولية للدخول في حياتها الداخلية وفي عمق كيانها السياسي، من أجل ملء الفراغ السياسي الذي ينجم عن إخفاق الدولة في تحقيقه. والطائفية كتكوين مشوه، طاردة لأي مشروع وطني متبلور لتحقيق مشروع حداثة معاصرة تتطور بموازاته قواها السياسية والاجتماعية. فهي تقزيم للسياسة، وكابح للتفاعل السياسي وتوازن القوى وتوزيع المهام الاجتماعية على المستوى الأفقي للمجتمع. تخرج من ميدانها الاجتماعي لتتحول إلى علاقة سياسية لفئة خاصة، فئة منتفعة لها مصالحها ومكاسبها السريعة تحققه من خلال سيطرتها على السلطة. أي، هي منظومة متحجرة، خندقية، عصابية منغلقة ترى في الآخرين أعداء محتملين أو أعداء تحت الطلب في سعيها الحثيث للتكسب من علاقتها بالسلطة أو الاستفادة من تناقضات الواقع المحلي والمحيط الإقليمي والبعد العالمي. فالولاء الأول للحلقة المنغلقة سياسياً، للمصلحة الآنية البعيدة من لغة الحياة المعاصرة والدولة الحديثة. القوى الطائفية الحديثة والبيوتات الطائفية الوراثية، تستخدم فكرة الدولة والسيادة الوطنية بطريقة برغماتية شديدة العفونة لإدارة مصالحها الخاصة عبر الصراع السياسي والعسكري وفق أجندة داخلية وخارجية شديدة القذارة، في حركة طاردة للحمة الوطنية والنسيج الوطني. هناك بؤرتان في المنطقة، لبنان والعراق، تتموضعان على توزعات طائفية معترف بهم سياسياً من قبل دستور الدولة والدول الغربية، تعبران عن مصالح الطبقة السياسية المستقلة عن المجتمع. فكل طائفة هي أشبه بدولة داخل دولة، يتحول المجتمع فيها إلى رهينة أو دمية تتلاعب بها النخب في تزييف حقيقي للواقع وللحياة السياسية. مشروع مدمر لأي آفاق سياسية مستقبلية أو للعمل الوطني. فبدلاً من التطلع إلى البناء الداخلي والانفتاح السياسي الشفاف، ينغمس المجتمع في أزمة وطنية عميقة، مستعصية على الحل. ربما تحاول بعض القوى الوطنية الخروج منها لكن عطالة المجتمع وسيطرة العقلية الطائفية تجعلان هذا الأمر عسيراً، ما يؤدي إلى انغراس الجميع في هذا الوحل السياسي.