لم توفر هراوات الشرطة ديفيد غروسمان الصيف الماضي. يتظاهر الكاتب أسبوعياً ضد تدمير منازل الفلسطينيين في محلة الشيخ جراح في القدسالشرقية. وما يدعوه الخطاب العام المؤمم. من أكثر الكتّاب الإسرائيليين انتقاداً للاحتلال، وروايته الأخيرة هجاء ونشيد للأرض التي يرى فيها شعبين. استوحاها من امرأة غطت رقم منزلها لكي لا يهتدي الجيش إليها في حال مقتل ابنها في القتال. أورا بطلة «امرأة هاربة من الأنباء» غادرت بيتها في القدس لتطوف حتى الجليل هرباً من الخبر المرعب المحتمل عن ابنها الجندي. جهلها الحقيقة، تحسب، يلغيها ويؤجّل الموت والحزن. صدرت الرواية بعنوان « الى آخر الأرض» عن دار جوناثان كيب، بريطانيا، وحوت بعضاً من حياة الكاتب. فجر اليوم الأخير من هجوم إسرائيل على لبنان في تموز 2006 قتل ابنه أوري آمر الدبابة. نشرت الصحف عبر العالم رثاء ابن العشرين: « قال الرجل عبر الهاتف الداخلي إنه كان من الجيش، فنزلت لأفتح له وانا أفكر أن حياتي انتهت». بطلته خطّطت للاحتفال بتسريح ابنها من الجيش بالطواف في البلاد معه، لكن عفر شاء الاشتراك للمرة الأخيرة في هجوم كبير مع بداية الانتفاضة الثانية. كان زوجها إيلان وابنها الآخر تركاها حين ناقضت في التحقيق رواية عفر عن احتجاز فلسطيني يومين في براد للحوم في الخليل. هجرت البيت لكي لا تنتظر قرع الجرس، ورافقها أفرام، صديقها القديم ووالد عفر الحقيقي في رحلتها. تقنع نفسها بأنها تحفظ ابنها من الأذى إذا لم تتلق النبأ، وتروي الحكايات عنه كأن ذكره يكفي لإبقائه حياً. لكنها ليست شهرزاد، وهي تعرف أن الكلمات لا تصونه. «كيف تستطيع أن تصف وتحيي شخصاً، بلحمه ودمه، بالكلمات وحدها - آه يا إلهي، بالكلمات وحدها؟» في نهاية الرواية يهمس أفرام: «مع أنني أسير في وادي ظل الموتٍ لن أخاف لأن قصتي معي». كان غروسمان أول من كتب عن الاحتلال الإسرائيلي لأراض عربية في «ابتسامة الحمل». تستعيد «الى آخر الأرض» تاريخ إسرائيل وحروبها، وترى بطلتها أن لا مستقبل لها، وأنه لا يمكن العيش فيها من الولادة حتى الموت من دون حروب كما أمل غروسمان في أشهر رواياته «أنظر تحت: الحب». تتمسك أورا بموقفها الأخلاقي حتى عندما يعارض مصلحة أسرتها. حين يحاول عفر تبرير العنف ضد الفلسطينيين ينحصر همها في إنقاذه من «البربري الواقف أمامها». من نفسه. على أنها ليست كاملة. تشكل مع سائقها العربي سامي ما يسمّيه الإسرائيليون «الوضع» الذي يفرض على كل منهما تمثيل شعبه على رغم اتفاقهما. يلفت عفر والدته الى أن سامي هو الذي نقلهما الى المركز العسكري الذي تسجل فيه، فتكفّر عن غلاظتها بنقل طفلة فلسطينية مريضة معه عبر الحواجز الى المستشفى. تصف أورا حبها ابنها والأرض بحواسها، ولا يملك القارئ الا التفكير بغروسمان وابنه حين يقول إنها « تلمسه وتشمه» وتحاول تشكيله من كومة ثيابه، وتعدّ نفسها لفقدانه بطمر وجهها في التراب. تساوم بالقول إنها ترضى بيد أو قدم مقطوعة، بكلية مفقودة، ببقائه نبتة حية في غيبوبة. تسترجع المرأة الحق التاريخي عبر أقوال الإنجيل، ويروي أفرام وقوعه أسيراً بأيدي الجنود المصريين الذين يلتقطون الصور له وهم يعذبونه ويجبرونه على حفر قبره. جاكلين روز (اليهودية) كتبت في « ذا غارديان» أنها شعرت أن سجن أبو غريب، «رمز الأهوال التي اقترفها الغرب انتقل الى العرب. في هذه الرواية لكل شخص القدرة على أن يكون وحشاً، لكن الإسرائيليين هم الذين يعانون أكثر من غيرهم». تلتقي أورا أفرام في مستشفى خلال ٍحرب 1967 وتنام معه لكي تؤكد له أنه لم يفقد رجولته. المفارقة أن الرجولة والحرب رفيقان، ولا يمكن القضاء على الحرب إلا بإنقاذ الرجولة من شوائبها. قارن الكاتب الأميركي اليهودي بول أوستر أورا بشخصيات روائية كبيرة مثل إيما بوفاري وأنا كارينينا. يجفل غروسمان للتشبيه، ويوضح أنه اختار أما بطلة لأن الرواية تتناول حياة أسرة. « ثمة ما هو أمومي في الكتابة. طريقة اهتمام الكاتب بالشخصيات، حاجاتها وميزاتها». يجد سهولة مساوية في الكتابة بصوت العربي أيضا. « نحن شعبان متشابهان. كلانا عملي طموح، ولكن عاطفي جداً في الوقت نفسه. في أمثالنا، وحتى في مرحنا، مرارة وسخرية. أعتقد أن ذلك مصدر للأمل. تشكل العواطف 99 في المئة من هذا الصراع، وطريقة حله إذاً يجب أن تكون عاطفية. هذه هي قوة الأدب، أن يعيد استخدام العاطفة والتعاطف». عندما كان طفلاً دون العاشرة مر غروسمان في طريقه الى المدرسة بصف من الأشجار في القدس. حسب أن أرواح الموتى أسيرة فيها، وحرص على لمسها برقة سرية. حزنه على ابنه لا يزال يسري في جسده كالكهرباء، لكن الأشجار استبدلت بالقلم. ينهض صباحاً متحمساً لأن ساعات من الكتابة تنتظره، لكنه يمشي مثل أورا ويمشي. خمس أو ست ساعات كل يوم لا يجلس بعدها إلا ليكتب. معابر كان غديون ليفي قومياً مثل الجميع وآمن بأن الاسرائيليين هم الأفضل وأن العرب قتلة الى أن عمل صحافياً. ارتاد المناطق المحتلة ٍبانتظام وبدأ يرى بعينين مختلفتين. كان والده محامياً ألمانياً هرب مع والديه الى براغ التي ودعهما في محطتها ولم يرهما بعد ذلك. بقي الحائز على دكتوراه في القانون غريباً في إسرائيل، ولم يتقن لغتها. عمل في مخبز وقرع الأبواب ليبيع الكاتو والخبز، وبلغ ذروته المهنية حين عمل كاتباً صغيراً. عاش ستين عاماً غريباً في «وطنه» ولم يذكر وطنه الأول. رأى أباه في الفلسطينيين الذين هدمت قراهم ال416، وبدأ يتساءل عن السكان السابقين في بلدة الشيخ مونس التي عاش فيها. يدلي ليفي بشهادته في «عقاب غزة» الصادر في بريطانيا عن « فرسو بوكس» ويروي كم مرة أطلق جيش الدفاع الإسرائيلي النار عليه، وهدّد بالضرب في الشوارع، وطالب وزراء باعتباره خطراً أمنياً. مع ذلك يواظب ليفي منذ ثلاثة عقود على الذهاب الى الأراضي المحتلة ويغطي أوضاعها. «مهمتي المتواضعة منع قيام وضع يقول إسرائيليون كثر فيه إنهم لم يعرفوا الحقيقة». روّج ليفي لكتابه في جولة أوروبية تحدث فيها عن زيارته الأخيرة الى غزة حيث غطى في تشرين الثاني ( نوفمبر) 2006 مقتل معلمة في العشرين أمام الأطفال. توقفت حافلة تلامذة الروضة أمام المدرسة وإذا بقذيفة تصيب الشابة وتمزقها. غيّرت الحكومة القانون بعد ذلك لمنعه من العمل في غزة، لكنه تابع كفاحه «لإعادة أنسنة الفلسطينيين. منذ الطفولة الباكرة يتعلم الإسرائيليون أنهم الضحية الوحيدة والمطلقة، وأن الفلسطينيين ولدوا ليقتلوا وليسوا بشراً مثلهم». تحصل إذا على مجتمع لا شكوك أخلاقية فيه، لا علامات استفهام، ويندر فيه النقاش العام. وجد مهمته في تغطية حياة الفلسطينيين العاديين مثل معلمة الروضة في «هآريتز»، صحيفة المؤسسة. لا شيء يحدث فيها وكل شيء، ولا مهرب من الحصار فيها إلا بالموت. لم يستطع يوماً تجاوز سيارة إسعاف في جنين، ورأى امرأة مريضة فيها. سأل جنود الحاجز الذين منعوها من العبور عن مشاعرهم لو كانت المرأة والدتهم. ذهلوا ثم غضبوا وصوبوا بنادقهم إليه. يرى ليفي أن مواجهة تأثير غسل الدماغ الذي يبث الجهل والقسوة تبدو مثل محاولة إعادة العجة الى البيضة. خلال قصف غزة المركز بين 2008 و2009 قتل «كلب إسرائيلي» بصاروخ قسام فنشرت صورته على الصفحة الأولى في الصحيفة الأكثر مبيعاً في إسرائيل في حين ذكر مقتل عشرات الفلسطينيين في سطرين في الصفحة السادسة عشرة. العام الماضي قصد المهرج الإسباني الشهير ايفان برادو رام الله للاشتراك في مهرجان فأعيد من المطار لأسباب أمنية. هل كان المهرج يفكر بنقل أكداس كبيرة من الضحك الى عناصر معادية؟ قنابل مزاح الى الجهاديين؟ من خرافات الدعاية الإسرائيلية الراسخة أن الفلسطينيين هم المعتدون، لكن الإسرائيليين استفادوا من هدوء العقدين الأولين للاحتلال ببناء المستوطنات. ما كانت إسرائيل لتوقف حصار غزة الاقتصادي لو لم يطلق الفلسطينيون صواريخ قسام، والعنف الفلسطيني رد فعل وليس فعلاً. قد تدعو نزالاً بين مايك تايسن وطفل في الخامسة ملاكمة، لكن ماذا عن الفارق بين الاثنين؟ «الدولة التي تتخذ مثل هذه الإجراءات لا يمكن تمييزها من منظمة إرهابية».