منذ أعوام خلت، اعتاد إدارة ظهره عن منزله مودعاً أهله ومودعيه، تتقطر أعينه دمعاً على فراقهم برهة، وتتقاطر أدمع مودعيه دماً على ما سيعيشه خلال فترة غيابه عنهم، فأشواق غير الميسورين لمرافقته (للحضور في يوم الحج الأكبر ملبين والأوبة من هناك إلى المشعر الحرام في مزدلفة بائتين، والاستيقاظ فيها قبيل قصدهم الجمرات في يوم النحر مكبرين والطواف بالبيت العتيق والسعي بين الصفا والمروة محرمين، والمكوث في منى ثلاث ليال مبتهلين، والعودة إلى الحرم مودعين، نائلين من هذا الفضل ما نائلين)، لا تحدها حدود ولا توصفها جزلى العبارات. جميع المعاني المذكورة كانت مشهد من كان مصطفاً لوداع الحاج السوداني مبارك مصطفى عياد (مستثمر في مجال الذهب والمجوهرات) ممن لم يفتح الله عليهم وييسر لهم مرافقته، موصينه بتذكرهم عند ربه (رب العالمين) بأن يكتب لهم مثل ما حباه به، وأن يدعو لهم بتحقيق أمانيهم ومبلغهم. بيد أن موسم حج عياد هذا العام (العاشر له منذ أن بدأ الحج بلا انقطاع) لم يكن كسابقيه، كما لم يثبت مودعوه على أمانيهم السابقة (مع عدم جهلها)، إذ مثلت هواجس انفصال البلاد وانشطارها إلى شطرين هماً جديداً زاد من تحميله (عياد) وصايا جديدة لم يألف الإيصاء بها من ذي قبل، تذكره بزيادة التضرع والابتهال حد الارتواء إلى رب الجلال في بلاد الطهر والقداسة بأن يجنب البلاد والعباد شر منكرات المحدثين مما سيحرم نصفه الشمالي رؤية نصفه الآخر الذي تغلب عليه صبغة النصارى، بيد أن منهم من ينطق بالشهادتين مثل مودعي عياد وبالتالي منهم من يتمنى حظوة ما حظي به. وبين أكف تتضرع إلى الوحدة، وأخرى ترتفع لتجنيب البلاد شر ويلات الانفصال، اعتلت دعوات السودانيين الموجودين هذه الأيام في الأراضي الطاهرة لتأدية فريضة الحج لتحقيق أي من الأمرين من دون حدوث مشكلات. وشارك الهم الوطني السوداني هموم الحجاج ووصايا ذويهم ومعارفهم بالدعاء لهم في الأراضي المقدسة، حيث ظلت مخيمات السودانيين (في الحدود ما بين منى ومزدلفة) والأخرى التي بالقرب من منشأة الجمرات في مشعر منى مسرح دعاء غير منقطع بأن يجعل الوحدة خيار أهل السودان الأول. وفيها، سرد الحاج السوداني مبارك عياد، قصة توديعه المختلفة هذا العام عن الأعوام الأخرى، وكيف كانت دموع من كانوا في آخر يوم ملوحين له بأيادي اللقيا المرتقبة في «سودان» تركه موحداً وأمنيته التي انهمرت عقبها دموعه حارة بالعودة إليه وهو كذلك، ومضى يقول ل «الحياة»: «استغربت هذه المرة (العاشرة) أن وصية من كان في وداعي تكلفني جميعها بالدعاء بأن يظل السودان موحداً، وأن يجنبه وأهله شر كل ممزق وفتن ومحن ومصائب، وأن يجمع شمل قادته ويوحد كلمتهم وينصرهم على عدوهم وعدوه». وتابع: «أصدقكم القول أني كنت آخذاً في قرارة نفسي هذه الأمنيات ومتلهفاً للوصول إلى هذا البلد الأمين كي أرفع كفيّ أمام بيت الله الحرام والتزام ملتزمه متضرعاً بأن يتحقق السلام ويبقى البلد الذي ورثناه كابراً عن كابر كما وجدناه». وفي المخيم الذي آوى عياد، اقتربت «الحياة» من الحاج موسى ماكور أجانق (مسلم جنوبي) الذي كان يجلس مع سابقه (الشمالي)، فرق بينهما المسمى الجغرافي ووحدهما اسم القطر (السودان)، وقال: «من لم يزر السودان لم يعرف أن الإقامة في هذا المخيم الذي يضمني إلى جانب إخواني في الشمال هو الوضع ذاته الذي أعيشه في الخرطوم». واستطرد: «هاجرت إلى الشطر الثاني من الوطن الكبير، بعد أن ضاق بي الوضع ذرعاً في شطره الجنوبي بسبب تداعيات الحرب هناك، بيد أن ما وجدته في الشق الآخر لم يدر بخلدي وجوده في أي بلد آخر يحمل مسمى غير السودان، إذ وجدت أني رحلت من مدينة داخل بلدي إلى أخرى لي فيها الحقوق ذاتها وعلي فيها نفس الواجبات، والآن أكملت كل إجراءات رحلتي لأداء هذه الفريضة من الخرطوم، لذا أدعو الله أن لا يفرق بيننا مَن هدفه الانفصال، ومن هذه الديار المباركة أدعو على من يسعى لهذا المسعى أن يشتت شمله ويفرق جمعه ويرينا الله فيه عجائب أمره». وكانت البعثة السودانية للحجيج أعلنت استعداداتها المكثفة لوضع اللمسات الأخيرة لخطة التفويج إلى منى بعد نجاح التصعيد إلى عرفات، بينما بلغ عدد حجاج السودان حوالى 3390 حاجاً من الحصة الممنوحة للسودانيين لحج هذا العام، بينهم 450 حاجاً جنوبياً أنهوا إجراءاتهم كافة من الخرطوم. وأعلن المتحدث الإعلامي لبعثة الحج السودانية محمد عبدالوهاب تصعيد حجاج السودان كافة أول من أمس (الثلثاء) إلى منى لإكمال الفريضة، مشيراً إلى أن البعثة السودانية تفقدت حجاجها ووقفت على صحة كل الحجيج حتى يتمكن كل الحجاج من إكمال النسك كافة.