اختار البرنامج الوثائقي البريطاني «العراق السري» الذي عرضته قناة «بي بي سي» الثانية ان يستهل حلقته الاولى بقصة بريطانية عن المستشار المالي الانكليزي الذي خطفته مليشيات مقربة من «جيش المهدي» العراقي من عمله في وزارة المالية العراقية لنحو 3 سنوات، قبل ان تستبدله بأعضاء من المنظمة كانوا محتجزين عند القوات البريطانية. قصة المستشار المالي الذي جاءت حادثة اختطافه في وضح النهار وعلى أيدي عراقيين كانوا يرتدون زي الشرطة الرسمية في اشارة الى الانهيار الامني الفادح الذي هيمن على العراق لسنوات، عادت في الحلقة الثانية من البرنامج. ولكن هذه المرة كإشارة الى تحسن أمني طفيف وسيادة مفاهيم جديدة. فالقوات البريطانية لم تعد تحكم جنوب العراق، بل ان البرنامج يقدم تفاصيل مرعبة عن الانهزام الكبير لهذه القوات في نهاية عام 2006، وصعود التيار المقرب من مقتدى الصدر بمساعدة ايرانية، وسيطرته تماماً على مدينة البصرة، قبل ان تهزمه الحملة العسكرية المفاجئة التي قادها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بنفسه في بداية عام 2007. ومع هذا لا يخصص برنامج «العراق السري» إلا زمناً قليلاً للدور البريطاني في حرب العراق، بل يركز على بدايات المقاومة المسلحة للوجود الاميركي والبريطاني في بلاد ما بين النهرين بعد عام 2003. ويقدم، كما يقول، لقاءات تلفزيونية اولى مع مؤسسي هذه المقاومة الذين وقفوا وراء تنظيمها ودعمها، قبل ان يدخل تنظيم «القاعدة» العراق. ولا يغفل البرنامج، تسجيل الظروف التي سبقت القاء القبض على رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين، ويسجل لقاءات مع شخصيات عراقية التقت صدام مباشرة بعد اعتقاله، ليصل في الحلقة الثانية الى صعود حركة ما صار يعرف ب «الصحوة» بين العراقيين. في هذه الحلقة قدم البرنامج لقاءات (وصفت بالنادرة ايضا) مع شيوخ عشائر تحدثوا عن ايام سيطرة تنظيم «القاعدة» على مدنهم، وكيف غيرت التصرفات الشاذة لهذا التنظيم المزاج العراقي الشعبي الذي انتهى بطرده من المدن، ونزع الكثير من عوامل قوته في العراق. ولأن الاستعادة التاريخية لاحداث السنوات التي راوحت ما بين 2004 و 2007 لن تكتمل من دون الحديث عن الدور الاميركي العسكري والامني في العراق، انجز البرنامج لقاءات كثيرة مع أميركيين خدموا في العراق، من جنود عاديين الى مسؤولين بعضهم ترك مسؤولياته مع انتهاء فترة ادارة الرئيس الاميركي السابق جورج بوش. هذه اللقاءات كشفت الكثير من تفاصيل تلك الفترة، وتجاوزت اهميتها تلك التي اجراها البرنامج مع عراقيين، بدوا مرتبكين كثيراً، وتحدثوا بلسان يكاد يكون واحداً، عن ظروف بدء المقاومة العراقية. حتى اللقاءات التي وصفها البرنامج ب»النادرة» مع شيخ العشيرة العراقي الشاب الذي بدأ بعمليات مقاومة تنظيم «القاعدة» في العراق، لم تكشف الكثير، ولم تتجاوز تحقيقات صحافية أو تلفزيونية سابقة عن الفترة الحرجة ذاتها. ولأن البرنامج صوّر في العامين الأخيرين، يمكن بسهولة ملاحظة جودة الصورة وحريتها النسبية في بلد شهد تحسناً امنياً لافتاً. لكن المسافة التي قطعها البرنامج في تقديم وثيقة تاريخية مهمة، بقيت محدودة كثيراً، ربما بسبب القرب الزمني للأحداث والتباس الوضع العراقي الحالي، وصعوبة الالتفات الى الماضي من دون ان يتعثر المرء بعقبات الحاضر الصعبة.