الجميع يتفق على أن عهد النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) هو العهد الوحيد الذي نصفه تاريخياً بعهد التألق والبناء بسبب تطبيقه للنصوص الدينية بشكلها الصحيح كما يراد ويرجى منها لخير البشرية في جميع مناحي الحياة وبخاصة ما يتعلق منها بشؤون المرأة المسلمة وما ينبغي أن تكون عليه كما أراد لها الإسلام. ولهذا بقي عهد الرسول (عليه الصلاة والسلام) نموذجاً تاريخياً لا يمكن أن يتكرر كونه النموذج الوحيد حتى تاريخنا المعاصر الذي أثبت بحق أن في استطاعته دمج الدين مع السياسة، وهذا ما لم ولن يتكرر حدوثه في تاريخ العرب بعد ذلك بسبب تدخل السياسة في الدين وإخضاعها له كأداة من أدواتها لتحقيق المصالح والمنافع السياسية الخاصة على حساب المصالح العامة للمجتمع المسلم. ومن العبث في رأيي أن نظل نحفر في هذا التاريخ موهمين أنفسنا بقدرتنا على إعادة إحياء النموذج النبوي الديني - السياسي كما هو وتطبيقه على واقعنا المعاصر. أصبحت المرأة في مرحلتنا الراهنة موضوع نزاع بين مختلف التيارات الفكرية، فالتيارات التنويرية على مختلف توجهاتها تعتبر أن الدين الإسلامي يحتضن تعاليم تصب في مصلحة عنصر الرجل على حساب مصالح المرأة الشرعية والمدنية، فتقف وتنحاز إلى جانب الرجل ضد تحرير المرأة ونيلها لكافة حقوقها الطبيعية، ولذلك ترى هذه التيارات أن المشرعين في الفقه والعقائد الدينية لا يعترفون للمرأة بشيء إلا بالتشريعات التي يضعونها لها بحيث تبقي أوضاعها وحقوقها التشريعية أقل دائماً من حقوق الرجل، فتمنح الأولوية للرجل على المرأة، وهي أولوية من وجهة نظر الفقهاء والمشرعين قانونية وبيولوجية واجتماعية بالدرجة الأولى مستندين في ذلك على تشريعاتهم وتأصيلهم للنصوص الدينية كما يفهمونها أو تتماشى مع مصالحهم ورغباتهم! وهذا في تقديري هو من أهم الأسباب التي جعلت الكثيرين يعتقدون أن الإسلام هو الذي قرر دونية المرأة بنصوص أقر لها المشرعون أنها نصوص قطعية الدلالة ولا يجوز الخوض في تفاصيلها ومناقشتها أو التفكير في تحليل معانيها ومضامينها! بل ذهب معظم المتطرفين والمغالين ممن اطلقت عليهم صفة الفقهاء وعلماء الدين عبر التاريخ إلى حد تصوير المرأة ب «الشيطان»، فصاروا يدّعون كره الإسلام للمرأة ويدعون الى قمعها على اعتبار أنها تجسد الشهوة التي تفلت زمام سيطرة الرجل المؤمن على إرادته. وأبلغ تعبير عن هذه الأفكار المريضة ما ذكره الباحث العربي عبدالصمد الديالمي في كتابه «المرأة والجنس»، حيث ذكر أن المؤمن المسلم يعاني من تمزق في شخصيته فتتجاذبه قوتان متناقضتان (الله والمرأة) وهو بذلك يكون قد عوض الشيطان بالمرأة ليقول أن التمزق الحقيقي الذي يعاني منه الرجل المؤمن يكون بين الله والشيطان، أو بمعنى آخر بين الخضوع للتعاليم الربانية أو اتباع الشهوات التي تقدمها المرأة. معظم فقهاء وعلماء الدين يذهبون في اتجاه الإيمان بأن الإسلام قد نزلت تعاليمه فقط لصالح الرجل، فيبيحون تحيزهم وتفضيلهم لمصالح الرجل وحقوقه على حساب مصالح وحقوق المرأة من خلال حفرهم الدائم والمستميت في النصوص الدينية ومحاولاتهم تأصيلها بما يخدم دوافعهم وأهدافهم ومصالحهم، لكن الواقع التاريخي يشير إلى أن من أهم أسباب تأخر وتخلف المرأة المسلمة عن غيرها من النساء مرده الى الكثير من التراكمات الخرافية والثقافية من عادات وأعراف وتقاليد جاهلة علقت باسم الإسلام، الأمر الذي جعلها منذ ذلك الوقت أمراً لا يستحسن أن يذكر في مجالس الرجال، حتى إن كلمة امرأة أصبحت في وقتنا الراهن تعد بمثابة «مسبة» لدى بعض المتخلفين من أبناء مجتمعنا يقصد من ورائها إهانة الرجل إهانة بالغة. إن مسألة دونية المرأة لا تعود في الأساس إلى أي نص ديني إسلامي صحيح، لكنها ارتبطت بتأويل النصوص الإسلامية الدينية كما أراد لها معظم الفقهاء وعلماء الدين عبر التاريخ، والذين جاهدوا في سبيل إقران المرأة في الدين بالخرافة والأساطير والبدع، وإلصاق كل ما صوّره لهم فكرهم المتزمت المريض من منكرات عند تعاملهم مع وضعية وحقوق المرأة المسلمة في سبيل عدم الاعتراف بحقوقها التي منحتها إياها التشريعات السماوية واستبدالها بالتشريعات البشرية الوضعية التي أقرتها تشريعات ممّن يطلق على الكثير منهم فقهاء وعلماء دين، ولهذا فإن من الضروري في رأيي أن يقف أمثال هؤلاء وقفة صادقة مع الله لمراجعة مواقفهم والاعتراف بأخطائهم التي جعلتهم يتخاذلون عن تطبيق تعاليم الإسلام الواضحة والصحيحة في الأمور كافة وبخاصة ما يتعلق منها بشؤون المرأة المسلمة، والتي جعلت أحوالها تنحدر في الفلسفة والثقافة الإسلامية المعاصرة عن أحوالها التي كانت عليها في عصر نبي الأمة (عليه السلام) وكما ينبغي لها أن تكون في جوهر الإسلام مما يدفعنا إلى الاعتراف التاريخي بانحدار أوضاع وأحوال المسلمين جميعهم ذكوراً وإناثاً عن تعاليم الإسلام الحق، حتى وإن وقف جميع فقهاء وعلماء الدين ضد هذا الاعتراف الذي يقرونه دون شك داخل أنفسهم، لكنهم يتملصون من التصريح بأسبابه الحقيقية كي يجنبوا أنفسهم تحمل مسؤولية أخطائهم البشرية أمام التاريخ. إن سيرة نبي الأمة (عليه السلام) هي بحسب أقوال الفقهاء والمشرعين المثل الأعلى لرجال المسلمين، لكن رجال المسلمين في تاريخنا المعاصر أصبحوا لا يتبعون المثل الأعلى ولا يتقيدون بمعنى الحرية التي كان عليه السلام يمنحها لنساء بيته وقومه، فخالفوه وفرضوا الطاعة العمياء والعبودية على المرأة وأصبحت تعاليم رسول الأمة مجرد كلمات يرددها غالبية الرجال من دون قناعة بها أو العمل بمقتضاها، ولهذا بات مجتمعنا يتصنع ويبالغ في الحشمة والتحفظ، ويقيد المرأة بمجموعة أعراف وتقاليد جاهلة وبالية حتى وصل الأمر بالبعض منهم ونحن في القرن الواحد والعشرين إلى التشبث بفكرة عدم الاعتراف أو التعامل إلا مع نصف العقل البشري فقط المتمثل في عقل الرجل وإلغاء أي دور اجتماعي أو ثقافي للمرأة. إن الإسلام في رأيي يبقى نموذجاً إنسانياً واجتماعياً مفتوحاً على التاريخ، ولهذا فلا ينبغي علينا مسايرته تاريخياً لأنه صالح لكل زمان ومكان، وهذا يعني أن لكل عصر إسلامه النموذجي الخاص به والذي يوجب التعامل مع واقع متطلباته وتحقيقها من خلال ما تقتضيه مصالح المجتمع في الزمان والمكان، أما غير ذلك فهو تخلف عن الحاضر والمستقبل وارتباط بالماضي غير القابل للتغيير والتجديد، اللهم إلا بمسايرة التاريخ والغيبيات التي تنجح دائماً في تحويل ظاهر النصوص المقدسة إلى تشريعات دينية باسم الإسلام. * أكاديمية سعودية [email protected]