في أيلول (سبتمبر) الماضي كتب الباحث الإيراني، القريب من التيارات الليبرالية في جامعة طهران، في مجلة الشؤون الخارجية الأميركية تحليلاً حول تشكيل الحكومة في العراق مشيراً إلى أن ايران لا تتمتع بالقوّة الكافيّة لفرض مشروعها الخاص، لكنها تمتلك ما يكفي لتعطيل المشروع الأميركي. واعتبر أن خطّة المواجهة الإيرانيّة تتضمن ثلاث مسائل استراتيجيّة، هي دعم شيعة العراق، واستنزاف اميركا من خلال مواجهة غير مباشرة، وتطوير قدرة ردع داخل العراق لضمان عدم هجوم الولاياتالمتحدة عليها. وأشار إلى أن : إيران ترى في الولايات المتّحدة «قوة غير صبورة». وفعلاً، ففي حين استثمر الإيرانيّون كلّ طاقاتهم في العراق في نيّة البقاء، بدأ الأميركيّون بالمغادرة. وهو أمر وصفه السفير الأميركي الأسبق في العراق ريان كروكر بأنه «افتقار إلى الصبر الاستراتيجي». وعليه يبدو أن الرد غير المباشر للسفير كروكر هو المقدمة الضرورية لمعرفة تعقيدات الوضع العراقي وماهي فعلاً المضامين الحقيقية «للصبر الاستراتيجي» من وجهة نظر «المؤسسة» الأميركية لا الإدارات التي تنفذ عملياً هذه السياسات في مراحلها المختلفة. ففي 17 أيلول السابق وفي ندوة في مجلس «الشؤون العالمية - دالاس» أكد كروكر أن البقاء في العراق طويل وأن العلاقة الاستراتيجية ليست بالضرورة خاضعة للوجود الكمي العسكري. وأن رأينا المشترك مع المالكي في اتفاقية «سوفا» يشكل دعامة لآلية صياغة الحكومة الجديدة المنتظرة. وأن اميركا بحاجة إلى «انخراط» جدي وعميق في العراق ولكن العمل يجب أن يسير على إيقاع «ساعة بطيئة» تكون معادلة لمفهوم «الصبر الاستراتيجي» الذي أطلق سهام النقد لسياسة اوباما الانسحابية بشكل عام. لكن كروكر في مقالته المضغوطة في مجلة «ناشونال انتيريست» الأميركية في 12 تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم قد زاد في توضيحاته السابقة وحدد المحطات الأميركية القادمة في العراق. وأعلن في صيغته التي تعارض دائماً بمفاهيمها أسلوب السياسي ذا «نصف الكأس الفارغ» بأن آلية تشكيل الحكومة الحالية تعتمد على الانخراط الشامل لكل المكونات السياسية والاجتماعية ولكنها أيضاً بحاجة إلى ضمانات مستقبلية لشروط استمرارها وصمودها أمام الضغوط الإيرانية المتعددة. وهو في كلامه هذا يحاول تشجيع المالكي على الدفع أكثر في الاستفادة من الشرخ العميق الذي حصل في التحالف «الشيعي» ملوحاً بأنه سيواجه التحدي الأكبر مع الكرد، ويجب عليه تقديم بعض التنازلات المهمة تحت سقف متوازن لا يبعد «السنة» عن المشاركة في الحكومة المرتقبة. بيد أن كروكر في حديثه في 21 من تشرين الأول الماضي، في الاجتماع التاسع عشر «لصناع السياسة» في المجلس الوطني للعلاقات الأميركية - العربية، قد أعاد كلامه السابق ولكن بتركيز أكثر على جوانب الصراعات الداخلية العراقية بين مكونات «العملية السياسية» وعلى الصراع الحاد داخل «البيت الشيعي» وكيف أن اميركا تهتم حالياً بالاحتقان العربي - الكردي وتعتبر حل هذه المشاكل هو حجر الزاوية في الوصول إلى «مقايضة» داخلية بين المالكي وعلاوي وبارزاني من أجل تشكيل الحكومة القادمة. وعلى رغم أنه قد جزم بأن العلاقات المالكية - الصدرية كانت دائماً غير مستقرة فإنه مقتنع بأن مشاركة علاوي قد تحرم ايران من استعمال الصدريين ضد المالكي في المدى المنظور. وهو عموماً لديه أفكار حول قوة «الوطنية الداخلية» في مواجهة الضغوط الإيرانية تحديداً. ويمكن القول دون حذر أن كروكر يبذل جهوداً غير عادية في شرح مفهوم «الصبر الاستراتيجي» في حضوره، في نفس الوقت، أيضاً ندوة «الأمن والاستقرار» في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» وبالترتيب مع المحلل الشهير انتوني كوردسمان، حين أضاف مواد جديدة إلى قائمة «الغسيل والمكوى» الأميركية في العراق منبهاً إلى حالة غير طبيعية تتجلى في «العلاقات غير المتوازنة بين القوى المدنية والعسكرية» الموجودة في السلطة والمتحكمة في مفاصلها التنفيذية. وربط بين هذه الهواجس وبين الصراعات البينية العراقية للنخب المشاركة في «العملية السياسية» من جهة وبين استفحال الصراع الشيعي - الشيعي والدور الإيراني في تسعيره خدمة لأغراضها التعبوية السياسية والعسكرية. لكنه أكد على أهمية رجوع العراق مرة ثانية إلى الواجهة وسخر من محاولات «دول الجوار التي تنتظر فراغ الصبر الأميركي وتسارع ودون صبر إلى ملء الفراغ الأمني والسياسي المتخيل». في هذه المطارحة المكثفة يبدو أن كروكر يقترب جداً من طاولة التشريح السياسية في العراق ويركز على عقابيلها الأمنية أكثر من المدرسة التي تعتمد على التحليل العسكري - الأمني وتستند إلى خلاصاتها السياسية. وهو في كلامه هذا قد أعاد المخاوف القديمة التي طرحت في العام السابق ولاسيما بعد نتائج انتخابات المحافظات والشعور الحاد الذي أصاب «المجلس الأعلى» و «الصدريين» من تفاقم حدة الصراع مع «حزب الدعوة» والسيطرة المنتشرة لكوادر الحزب في المؤسسات العسكرية والأمنية العراقية. وعلى رغم أن القيادات الأميركية، ومنها ريموند اوديرنو، قد شهدوا أمام الكونغرس بأن القوات الميدانية للجيش الأميركي قد فرزت «المئات» من الضباط الأميركان من عناصر الاستخبارات والتدريب والإعلام السياسي في مختلف درجات الفرق العسكرية العراقية لكن هذه الشهادات تثبت ولا تنفي الهوة السحيقة التي تنمو بين القيادات المدنية العراقية المنزوية في «المنطقة الخضراء» وبين القيادات العسكرية العراقية التي تنتشر في شوارع المدن وتحتك مباشرة مع أوضاع الناس ومشاكلها وهمومها اليومية المتكاثرة. وهذا ما دفع بالقيادي الكردي برهم صالح إلى المطالبة بإعادة تشكيل «القوات العراقية» العسكرية والأمنية لكي «ينظر إليها بأنها تمثل الجميع في البلاد». فهل التحذيرات التي أطلقها كروكر جادة أو جزء من المناورات السياسية التي تجرى في العراق والمنطقة. بعد كل هذه المساجلات الصبورة(!) من لدن ريان كروكر، هل تنجح اميركا في تشكيل حكومة «شراكة وطنية» والتي هي نسخة ملفقة من «حكومة محاصصة» لا تفترق عن تلك الطبخة التي قال عنها الإعرابي بأنها لو حشيت بالتقوى وقليت بالمغفرة ما كانت الا بغيضة! * سياسي وكاتب عراقي