طويلة هي، حتى الآن، جولة وودي آلن، خارج نيويورك طفولته وصباه في أفلامه الأولى، ثم في الكثير منها بعد ذلك. طويلة هي الجولة ومع هذا ثمة من يرى - وهو نفسه، وودي آلن، يرى هذا وإن في شكل موارب - انه حتى في جولاته الخارجية، ندر له أن بارح مدينته الأثيرة. فخلال السنوات الأخيرة حقق صاحب «مانهاتن» و «آني هال» أفلاماً في برشلونة وهوليوود ولندن... وهو حالياً ينجز فيلمه الجديد في باريس. خلال هذه الفترة، عاد بعض الشيء، الى نيويورك، على أية حال، وذلك في فيلم أو فيلمين كان آخرهما «كل شيء ماشي». لكن لندن كانت ذات الحظوة، في شكل فاقع، يشهد على هذا ان فيلمه قبل الذي يصوره حالياً، انما هو الرابع الذي يحققه في العاصمة البريطانية خلال ثلاث أو أربع سنوات. وهذا الفيلم الذي بدأت عروضه في مدن العالم منذ أسابيع، بعدما عرض للمرة الأولى، في مهرجان «كان» السينمائي، هو بالطبع «سوف تلتقين برجل طويل غريب». واللافت ان هذا الفيلم لم يصور فقط في لندن بل يبدو لندنياً في الأساس. تماماً كحال فيلمه «الإسباني»: «فيكي كريستينا برشلونة»، الذي يحتاج المرء الى مشاهدته مرتين ثم قراءة حواراته مرات ومرات قبل أن يتيقن من انه ينتمي الى عوالم وودي آلن. ويقيناً ان ذلك الفيلم ينتمي في النهاية الى تلك العوالم، حتى وإن كان حققه لمجرد أنه أراد أن يشتغل فيه مع نجمتين من كبار نجمات السينما في العالم حالياً: سكارليت جوهانسون وبينيلوبي كروز. أما في الفيلم الأخير «سوف تلتقين...»، فمن الواضح انه بالكاد يبدو عليه أنه حققه من أجل حسناء معينة أو نجمة مختارة، أو ملهمة معلنة، حتى وإن كان قيل انه انما صيغ في الأساس كي تقوم فيه نيكول كيدمان بدور ما. لكنها لم تفعل. وفي المقابل حفل الفيلم بممثلين من الطبقة الأولى، من دون أن تكون بينهم ملهمة حقيقية كما كانت الحال في معظم أفلام وودي آلن الأخيرة. ولعل علامة ذلك ان الممثلة الأبرز في الفيلم هي الستينية جيما جونز، التي ربما ترشح للأوسكارات هذا العام عن دورها في الفيلم. أزمة عائلية بعد هذا كله يصح التساؤل: أين هي نيويورك، إذاً، في هذا الفيلم الإنكليزي الخالص؟ هي ربما في كون الفيلم محاولة موسعة لاستعادة موضوع كان وودي آلن ما فتئ يطرحه في الكثير من أفلامه: موضوع الحياة الزوجية: بل ان «سوف تلتقين...» يكاد في وجه منه أن يكون تطويراً لفيلم سابق لآلن هو «ازواج وزوجات» (1992) ولكن بعدما نقل «المشكلة» من أميركا الى انكلترا وتحديداً الى مجتمع الطبقة الوسطى اللندنية، ووسّع بيكار الشخصيات، اضافة الى انه - وكما كانت الحال في سابقه «كل شيء ماشي» - جعل الدور الذكوري الأول لسبعيني (لم يمثله بنفسه لأسباب لا يمكن فهمها) يكاد يكون أناه الآخر بل إنه أعطاه أيضاً اسم آلفي، الذي سمى به شخصيته في بعض أفلامه القديمة. آلفي في الفيلم (انطوني هوبكنز) سبعيني لندني تبدأ أزمة منتصف العمر تغمره، فيقرر أن يطلق زوجته هيلين (جيما جونز) ويستبدلها بعاهرة بالأجرة يصادقها وينفق عليها ثم يتزوجها وقد أراد منها أن تعيد اليه شبابه المفقود. وازاء هذا الوضع لا يعود أمام هيلين، إذ سئم الآخرون ولا سيما ابنتها سالي (ناومي واتس) الاستماع الى شكواها، لا يعود أمامها إلا أن تلجأ الى العرافة النصابة كريستال، التي تعدها فوراً لطمأنتها، بأنها ستلتقي رجلاً طويلاً غريباً، يملأ عليها حياتها بعد هجران زوجها. وإذا كان لجوء هيلين الى كريستال يفرحها، فإنه يفرح أكثر ابنتها سالي، التي تجد أمامها الآن متسعاً من الوقت للاهتمام بمشاكلها الخاصة. فسالي تعيش بدورها حال تفكك في حياتها الأسرية، تحت وطأة فشل زوجها الكاتب (جوش برولين) في كتابة رواية جديدة له، يستعيد بها نجاحاً كتابياً سابقاً، لم يتجدد منذ سنوات. وتتفاقم الأوضاع، حين يعتقد الزوج انه وجد مصدراً لإلهامه عبر امرأة حسناء (فريدا بنتو) يراها من نافذة غرفته في بيت مجاور تعزف الموسيقى برداء أحمر بديع. وهكذا يتصل بالمرأة ويقنعها بالتخلي عن خطيب لها من أجله. وفي المقابل تنشغل زوجته سالي بحكاية غرام تنسجها مع رب عملها في الغاليري الذي تعمل فيه (انطونيو بانديراس) من دون أن تتنبه الى انها مجرد حكاية اخترعتها هي لنفسها. حول هذا المناخ، الذي في ظاهره، يذكره بمسرح الفودفيل الفرنسي (فيدو ولابيش) انما مع مرح أقل ولؤم أكبر (لا ننسينَّ هنا اننا ازاء فيلم لوودي آلن مهما كان من شأن الموضوع والأجواء)، نسج المخرج فيلمه، الذي أتى، في الوقت نفسه، مذكراً بعوالمه وبنائه للشخصيات، مقترحاً على سينماه أساليب ومواضيع جديدة. لقد أشرنا أعلاه الى ان هذا الفيلم يعتبر، في شكل أو في آخر، امتداداً ل «أزواج وزوجات»، غير أن ثمة فارقاً أساسياً يكمن في أن شخصيات وودي آلن، هذه المرة، حتى وان كانت تنتمي الى عالم الثقافة، كالعادة عنده (لا سيما منها زوج سالي الكاتب، ورب عملها وهي العاملة في غاليري فنية) فإن عادية الشخصيات تبدو أوضح، ولا يتجلَّى هذا في مهن الشخصيات بقدر ما يتجلى في همومها وحواراتها، حيث - هنا - غيّب آلن والى حد كبير، ذلك النمط من الحوارات الذي كان يشكل عماد أفلامه وأجواءها السابقة، مستبدلاً ذلك بلؤم وتهكم في المواقف، كما في المصائر، حيث إن أياً من الشخصيات المأزومة، في الفيلم لا ينجح في مشروعه، سواء كان هذا المشروع مهنياً أو حياتياً، مع استثناء وحيد هو أن جزءاً من «نبوءة» العرافة كريستال لهيلين يتحقق: فهي بالفعل تلتقي شخصاً يحل لديها بديلاً لزوجها الهارب منها. طبعاً لن يكون هذا الشخص طويلاً كما في النبوءة، بل سيكون الى السخف أقرب في شكله ومضمونه. غير أنه، على أية حال، يؤمّن لهيلين تعويضاً عمَّا اقترفه زوجها في حقها. أما هذا الأخير فإنه سيفشل في زواجه الجديد من الغانية، وسيحاول العودة الى هيلين التي سترفضه بالطبع، هي التي سوّت أمورها في غنى عنه. كذلك ستكتشف سالي ان حكاية غرامها بصاحب الغاليري انما هي وهم في وهم. أما زوجها فإنه بدوره، لن يفشل فقط في العلاقة التي يقيمها مع ذات الرداء الأحمر، بل سيفتضح أمر الرواية الجديدة التي، هذه المرة، قبلت بها دار النشر وحققت نجاحاً، فاستعاد شيئاً من المجد، قبل أن يكتشف الآخرون انه انما سرقها من كومبيوتر مؤلفها الحقيقي، صديقه الكاتب الذي ما ان أنجزها حتى وقع في غيبوبة فخيل الى الزوج انه مات وان في إمكانه سرقة الرواية ونشرها باسمه. انقسام النقاد إذاً، في هذا الفيلم المسلّي المحبوك في شكل ذكي وهادئ، يوصل وودي آلن معظم شخصياته الى الفشل، محطّم الرغبات أمام واقع كل فرد لكنه يُنجح فقط المشروع الذي يقوم على نبوءة العرافة. والحال أن هذا الحل الفني الذي لجأ اليه وودي آلن، أثار منذ عرض الفيلم نقاشات كبيرة، حيث أعجب البعض الذي رأى فيه تهكماً على الواقع، فيما نفّر البعض الآخر، الذي رأى فيه بزوغ لا عقلانية جديدة، لدى وودي آلن. أما، في شكل عام، فإن الفيلم لم يعتبر من أفلام وودي آلن القوية. وهو على أية حال، قسم النقاد، انما من دون أن يضعه أحد في صف أفلام وودي آلن الكبرى، سواء كانت نيويوركية («مانهاتن» أو «آني هال») أو أوروبية لندنية (مثل «ضربة المباراة» أو «حلم كاسندرا») أو اسبانية (مثل «فيكي كريستينا برشلونة») واللافت حقاً في هذا كله ان وودي آلن نفسه، حين سئل قبل أسابيع ان يضع لائحة بالأفلام الستة، من بين أفلامه، التي يعتبرها أفضل ما حقق، ذكر الأفلام التي أشرنا اليها في السطور أعلاه، من دون أن يقول ولو كلمة حنان واحدة في حق «سوف تلتقين...» مع انه كان يوم طرح السؤال، آخر نتاجاته والفيلم الذي يحقق له، تجارياً، ما عجز عن تحقيقه معظم أفلامه السابقة. ولعل في مقدورنا هنا أن نختتم هذا الكلام بالإشارة الى أنه كان من «سوء حظ» وودي آلن، أن فيلمه الانكليزي هذا عرض في «كان» في الأيام نفسها التي عرض فيها فيلم انكليزي آخر، يتحدث عن الطبقة الاجتماعية نفسها، وهو فيلم «عام آخر» لمايك لي، فاعتبر هذا الأخير تحفة سينمائية، فيما نظر الى فيلم وودي آلن على انه «فيلم مسلٍّ» لا أكثر. ولم يكن هذا لمجرد أن لي تحدّث عن طبقة وموضوع يعرفهما جيداً، فيما يبدو وودي آلن غريباً، عن هذه الطبقة ينظر اليها من الخارج (فهو نظر اليها نفسها بعمق في «ضربة المباراة») في فيلمه بل ربما لأن وودي آلن بدا هنا واثقاً من أن النقد والجمهور سيتبعانه مهما فعل حتى ولو بنى فيلماً بأسره على اللاعقلانية، ناهلاً من تراث ماضيه السينمائي لا أكثر.