عادة ما يؤاخذ نمط من الفكر والايديولوجيا دعاة الاصلاح السياسي بأنهم لا يتميزون عن دعاة المحافظة على الهياكل والمؤسسات والهيئات القائمة، إلا بالدعوة الى القيام ببعض الرتوش على بعضها، في حين أن البديل الحقيقي هو القيام بثورة شاملة تقتلع مجمل مؤسسات وهياكل الواقع السائد من جذورها لتقام مقامها مؤسسات وهياكل جديدة. هذا يعني انه لا مصلحة مشتركة ممكنة، مع القوى المحافظة، صراحة، ومع القوى الاصلاحية التي لا تخرج من دائرة منطق المحافظة والتي تعمل كل منها على مناهضة الثورة وفكرها ومحاربة القوى الاجتماعية والسياسية التي تمثلها او تعمل لإنجازها. ومن اللافت، أن بعض القوى الراديكالية المتياسرة تذهب في معاداتها لتلك القوى الى اعتبار الاصلاحية منها أخطر على المجتمع من المحافظة التقليدية، لأن الاصلاحية محافظة مخادعة، بينما القوى المحافظة، منسجمة مع نفسها ومع مصالحها، وبالتالي، فإن المهمة الاساسية هي مواجهة القوى الاصلاحية بصورة لا هوادة فيها حتى لا تترك لها أي فرصة لخداع الشعب وجعله يميل الى برامجها مما يبعد أكثر فأكثر امكانية قيام الثورة الشاملة التي ينبغي أن تكون الشعار الوحيد والأوحد للقوى المخلصة لمبادئ الثورة والتغيير. وهو موقف يمكن ظهوره لدى التيارات الشعبوية اليسارية أساساً. غير أن التأمل في مفهوم الثورة، وفي أهدافها، يكشف عدم اتساق المنطق الذي يقيم علاقة التنافي والتلاغي بين فكر الثورة وفكر الاصلاح. ذلك أن الهدف البعيد لكل ثورة من ثورات التاريخ الانساني، هو تحقيق الاصلاح وإنجاز مهماته الضرورية لضمان التقدم الى الأمام. إن طبيعة التناقضات التي يواجهها المجتمع، ونوع الأزمة التي تعيشها مختلف المؤسسات التي يقوم عليها، هي التي تحدد الاسلوب الأنجع للتغيير والاصلاح. فحالة الاستعمار المباشر، مثلاً، قد تدفع تناقضاتها في البداية، الى اعتماد اسلوب المطالبة وتقديم العرائض الى الدولة المستعمرة لإدخال بعض الاصلاحات على المؤسسات القائمة، أو إنشاء مؤسسات أخرى تكون أرضية للتداول او لحل عدد من المشاكل السياسية والقانونية أو غيرها، في ظل التعايش مع الاستعمار، وتعديل شروط هذا التعايش، تحت إشراف ادارته المركزية. غير أنه ما أن يشعر الشعب الخاضع للاستعمار وقواه الحية بعمق وحدة التناقضات بين الطموح الى الاستقلال الناجز، وبين الترميمات التي يمكن ادخالها على المؤسسات للتخفيف من وطأة الاحتلال حتى يتم التفكير في الطرق الجذرية لحسم هذا التناقض. وعادة ما يؤدي هذا التفكير الى بلورة برنامج للثورة للتخلص من الاستعمار وبناء دولة الاستقلال الوطني. ولأن المستعمر يتشبث بمواقعه، ومستعد للدفاع عنها بشراسة لأنه يعتبرها حقوقاً مشروعة، وهو يحاول، بالتالي، إبعاد ساعة حقيقة هيمنته وسيطرته اللامشروعة على العباد والبلاد، فإنه يلجأ إلى أكثر أساليب القمع ضراوة وعنفاً لإخماد روح الثورة في الشعب، وتهميش أو القضاء على القوى الداعية الى الثورة سبيلاً للاستقلال الوطني الذي يعتبر بالنسبة اليها بديل المرحلة الاوحد، وأساس كل حل للظاهرة الاستعمارية في البلاد، وإعادة بناء مؤسساتها خارج أي هيمنة أو وصاية خارجية. وبطبيعة الحال، فإن الثورة قد تتخذ شكلاً عنيفاً ومسلحاً يشتد ويتسع مداه بقوة تشبث الدولة المستعمرة بالبقاء وإفراطها في استخدام القوة والعنف في مواجهة مطالب الشعب، الأمر الذي يؤدي الى خسائر مادية وبشرية تتضاعف مع استمرار الصراع العنيف أمداً طويلاً. وفي كل الأحوال، فإن الحالة الاستعمارية تظل أقل تعقيداً عند تشخيص التناقضات القائمة بين القوى الوطنية والقوى الاستعمارية مقارنة بالحالة المجتمعية الوطنية حيث تتخذ هذه التناقضات أشكالاً معقدة ومركبة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وربما المذهبية والعشائرية في بعض الاحيان. ولتعقيد عملية التشخيص هذه تأثيره الكبير، وعواقبه الاكيدة على بلورة البرامج التي تستهدف حل تلك التناقضات التي إن ظل هدفها الاساس هو الاصلاح، فإن المداخل الى هذا الاصلاح ليست سهلة الضبط والتعيين، وليس من السهولة أن تصبح موضوع إجماع أو توافق. ويمكن رصد منهجيتين في التعاطي مع هذه التناقضات الداخلية تترتب عنهما نتائج متباينة على صعيد التصور العام لمسار المجتمع وعلى صعيد اسلوب التغيير وتحديد قواه. فالمنهجية الاولى، تنطلق من أن الهدف من الممارسة السياسية هو تحقيق مصالح اوسع فئات الشعب، ومواجهة السياسات التي تعمل على النيل من تلك المصالح انطلاقاً من احتكار السلطة، والمال والنفوذ. وترى ان تحقيق هذه الغاية ممكن عبر الاساليب الديموقراطية بما في ذلك تنظيم الاحتجاجات والتظاهرات النقابية والجماهيرية للضغط على النظام السياسي وفرض اصلاحات سياسية او اجتماعية او اقتصادية تعود بالفائدة على مجمل شرائح المجتمع. وهي لذلك لا تتردد في المشاركة في كل الاستشارات والانتخابات التي تنظمها السلطة لتساهم من مواقع المسؤولية المحلية او الجهوية او الوطنية في تسيير شؤون البلاد وتحويل معارضتها السياسية العامة للتوجهات السائدة الى برامج ومشاريع قوانين تستقطب اهتمام المجتمع وتساهم في التمييز بين القوى السياسية على قاعدة المصالح التي تدافع عنها حقيقة وليس على أي أساس آخر. كما ترى ان اساليب العنف والمواجهات المفتوحة يمكن ان تكون بالغة الضرر بالوطن والشعب، بخاصة اذا ترك الحبل على غارب قوى التطرف والاقصاء السياسي لتذهب بمنطقها الى حدوده القصوى. لذلك، فإن هذه المنهجية التي يمكن اعتبارها المنهجية الديموقراطية بامتياز تؤمن في الممارسة بمنطق التسويات والحلول الوسطى، درءاًَ لمخاطر الانزلاق الى درك الصراعات الالغائية، التي تضحي بالمصلحة العليا للوطن من حيث يدري او لا يدري من يدفعون نحوها سواء كانوا في سدة الحكم او في صفوف المعارضة. وفي المقابل، ترى المنهجية الراديكالية المتطرفة في طبعتها المتياسرة او الشعبوية الفوضوية ان كل منطق يعتمد على الحلول الوسطى يؤدي الى إطالة امد قوى الاستغلال ولا يساعد على دخول ابواب التقدم والنمو في اي مجال من المجالات. بل أكثر من ذلك، فإن منطق التسويات بحسب هؤلاء، أشد خطورة على مستقبل الثورة المنشودة على اعتبار ان كل ترميم يتم اجراؤه لمصلحة مؤسسات وهياكل النظام القائم يعزز من قدرته على الصمود والبقاء امام رياح وقوى التغيير، وبالتالي، فإن ما تقوم به القوى الاصلاحية يفوق في ضرره ما يترتب عن سياسات النظام القائم والقوى التي تدور في فلكه وتعمل على تنفيذ سياساته وتوجهاته لأن ممارستها تكون عادة مكشوفة لدى قوى الشعب بما يجعلها أكثر هشاشة، في حين ان ممارسات قوى الاصلاح هي نوع من ذر الرماد في العيون لخدمة مصالح القوى السائدة. وهذا المنطق هو الذي يقيم نوعاً من حالة التلاغي بين الفكرة الاصلاحية وبين الثورة او التغيير الجذري، في حين ان الثورة فكرة اصلاحية بامتياز في ظروفها الخاصة وبوسائلها الملائمة والمتناسبة مع طبيعة تناقضات وإكراهات المجتمع المعني. ولعل أخطر نتيجة يمكن ان تنجم عن هذا المنطق رفع شعار الثورة لتبرير منطق المغامرة السياسية. * كاتب مغربي.