ذات مرة كان كاتب هذه السطور في إحدى المدن الخليجية يشارك، لمرة وحيدة في حياته، في مهرجان سينمائي فيها. كان ذلك بناء على إلحاح ناقد كبير صديق له، وفقط كي يدير ندوة حول الإنتاج السينمائي، كان الناقد الصديق يعتقد أنها مهمة وستجتذب، في حلقاتها الخمس مئات المشاركين. عقدت الندوة بالفعل، وشارك فيها الى جانب مديرها كاتب هذه السطور خمسة من نقاد السينما العرب البارزين. في النهاية كان عدد الحضور في الأيام الخمسة معاً 26 مستمعاً، بمعدل خمسة لكل جلسة! حين احتج كاتب هذه السطور يومها وأعلن أسفه لحضوره ولهذه «البهدلة»، لفت المنظمون نظره الى ان الحضور في الصالة ليس مهماً. المهم ان التلفزة هناك تصور كل ما يحدث وتسجل كل ما يقال. بسرعة يومها تنبه المحتج الى هذه الحقيقة. وأدرك ان كل ما يحدث هنا، في هذه المهرجانات، وربما في المهرجانات كلها، إنما هو يحدث من أجل أن تصوره التلفزة لتعيد بثه كساعات عروض لمتفرجين يعدّون بالملايين يقبعون في بيوتهم مشاركين في المهرجانات، حتى وإن لم تكن لهم بالفن السابع علاقة. بل حتى ولو لم يتنبهوا الى أن ما يبث على شاشاتهم الصغيرة له علاقة بالفن السابع هذا. والحقيقة أنه، على المستوى العربي على الأقل، من الظلم أن نقول إن هذا هو مآل تلك المهرجانات العربية (المتكاثرة كالفطر، والتي لو حوّلت الأموال المنفقة عليها الى دعم تطلعات السينمائيين الشبان العرب لخلقت حركة سينمائية ضخمة تستحق حينها ان تقام من أجلها المهرجانات)... من الظلم، لأن ما نعرفه هو ان التلفزات العربية حين تصور في «كان» وغيره، انما تستخدم ما تصوره للبث تلفزيونياً كعروض لا علاقة لها بالسينما. غير أن الفارق يكمن في انه، إذا كانت المهرجانات الجادة، عالمية أم عربية أم بين بين، تقام من أجل نهضة سينمائية حقيقية، فإن بعض المهرجانات العربية الثرية والمكلفة، تبدو وكأنها لم تقم إلا كي تصوّر تلفزيونياً. هي، بهذا، لا تكون أكثر من «تلفزيون واقع» من نمط مبتكر، يصعب العثور على ما يربطه بفن السينما الحقيقي... إلا الاسم. في واحدة من أغنياته الأخيرة، الناقدة لمظاهر الحياة الحديثة، يتحدث المغني الفرنسي الراحل ليو فيريه، عن مشهد عام واصفاً إياه بتفاصيله، ليقول في النهاية مختتماً الوصف: «... وثمة تلفزيون ملون للإحاطة بذلك كله». في معظم مهرجاناتنا العربية الضخمة بات واضحاً ان كل شيء يدور كي «يحيط التلفزيون بذلك كله...».