ستبقى الشؤون الداخلية، لا سيما الاقتصادية منها، موضع الاهتمام الأول للرئيس الأميركي باراك أوباما المهزوم هزيمة تاريخية في الانتخابات النصفية هذا الأسبوع. وسيبقى الرأي العام الأميركي غاضباً باحثاً عن التغيير مطالباً بأن تقوم حكومته بكل إجراء يضع «أميركا أولاً». لكن فوز الجمهوريين بمجلس النواب واحتمال سيطرة المحافظين (جمهوريين وديموقراطيين) على مجلس الشيوخ سيضع السياسة الخارجية على طاولة المساومة أو المواجهة الأرجح من الباب الإيراني ونفوذه الممتد في العراق وفلسطين ولبنان. فالجمهوريون والمحافظون يريدون تخفيض الإنفاق على البرامج المحلية معارضين تخصيص أوباما 900 بليون دولار لها، وهم يريدون زيادة الإنفاق على الدفاع وتصنيع السلاح من اجل إيجاد فرص العمل كما من اجل إثبات قوة أميركا في العالم. الديموقراطيون في عهد أوباما اعتنقوا الحوار والاحتضان والوعود بأحلام سخية الى حين استفاقوا على واقع صعب ومرير، داخلياً ودولياً، والجمهوريون ترقّبوا الأخطاء في زمن «الأوبامية» وتحفزوا لقلب الطاولة على ما يصفونه ب «اليسار» أو «الاشتراكية» التي يزعمون ان «الأوبامية»، تمثلها، وبدأوا المسيرة نحو إزاحة باراك أوباما من البيت الأبيض مع انتهاء ولايته الأولى. ما يستحق المراقبة ليس فقط كيفية التجاذب أو التنافس بين الجمهوريين والديموقراطيين على الصعيد الداخلي للسنتين المقبلتين، وإنما ايضاً كيف سيقرأ اللاعبون الدوليون – الحكوميون وغير الحكوميين – نتيجة الانتخابات النصفية، وماذا سيقررون على ضوئها. وإذا كانت القراءة ان الجمهوريين آتون الى البيت الأبيض لا محالة، فهل سيؤدي ذلك الى انقلاب جذري نحو الرئيس الديموقراطي إما من اجل تمكينه من البقاء في البيت الأبيض، أو تنفيذاً لمعادلة «خذ وطالب»؟ وإذا كان الاستنتاج أن «الوسط» الأميركي يتطلب من باراك أوباما الكثير من التنازلات، بالذات عن ركيزة سياساته الخارجية نحو إيران وسورية أو العملية السلمية الفلسطينية – الإسرائيلية، فماذا ستكون إجراءات الحكومات المعنية؟ فالجميع راقب تقاطيع وجه باراك أوباما في اليوم التالي للانتخابات التي أفادت بأن رجلاً جديداً آخر دخل هذا الأسبوع المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. الناخب الأميركي عبّر عن استنكاره من الديموقراطيين وتوجّه بشبه تأنيب وإذلال الى باراك أوباما الذي أفرط في الوعود السخية وحوّل وعد الأمل والتغيير عام 2008 الى خيبة عارمة عام 2010. ما قاله الناخب الأميركي هو انه يعارض ما هو عليه اليوم، محلياً واقتصادياً بالدرجة الأولى، إنما من دون ان يغمض عينيه كلياً عن وضع الولاياتالمتحدة على الساحة الدولية. القاعدة الشعبية التابعة لباراك أوباما ما زالت الى يساره وتريده ان يناضل ويقاوم الجمهوريين وجماعات «حزب الشاي» (تي بارتي) لكنها تريده ان يبقى سلساً، محاوراً، متفهماً، يمد الوجنة الأخرى لصفعة ثانية لأن التسامح هو الخيار ولأن هذه القاعدة الشعبية لا تريد أية حرب كانت تحت أي ظرف كان. وإن قيل لها: ماذا إذا كان الخيار الحاسم هو إما ضربة عسكرية للمواقع النووية في إيران او امتلاك إيران القنبلة النووية؟ ترد بأنها لا تريد الاثنين. وتتوقف عند ذلك. هذه القاعدة الأساسية للأوبامية باركت الإسراع الى الانسحاب من العراق وعارضت «حرب أوباما» في أفغانستان. معظمها يدفن رأسه في الرمال وهو بطبيعته انفتاحي اجتماعياً وانعزالي عسكرياً على الصعيد العالمي. يرى ان الحروب والصناعات العسكرية هي من صنع الجمهوريين وأن المحافظين القدامى أو الجدد هم الذين بدأوا مسيرة إفلاس أميركا وتعبئة جيوب كبار الشركات. القاعدة الشعبية الجمهورية تريد من الحكومة ان تلعب دورها بحجمه الطبيعي بدلاً من التدخل في كل شاردة وواردة. تريد ان تكون أميركا الدولة العظمى الوحيدة في العالم مهما تطلب ذلك من مغامرات خارج الحدود أو من إنفاق لا مثيل له. ففي العراق، أنفقت وزارة الدفاع الأميركية منذ بدء الحرب حتى الآن ما يفوق 620 بليون دولار وفي أفغانستان ما يقارب 200 بليون دولار. ما أنفقته في العراق شهرياً تعدى 5.5 بليون دولار، وما تنفقه الآن في أفغانستان يتعدى 7 بلايين دولار بل يقارب مليوني دولار أسبوعياً. هذه مبالغ طائلة لا يمكن دولة عادية إنفاقها. وما هذا الإنفاق على هاتين الحربين سوى استثمار في ضمان تفوق أميركا وعظمتها على الساحة الدولية، من وجهة نظر أكثرية الجمهوريين والمحافظين. أفغانستان تشكل ظاهرة مثيرة للانتباه في العلاقة ما بين باراك أوباما وحلفائه الديموقراطيين في هذه الحرب وبين المحافظين الجمهوريين الذين يعتقدون ان من الضروري البقاء في هذه الحرب ليس من اجل «بناء الدولة» في أفغانستان وإنما بهدف الانتصار في الحرب. كما أن الموارد الطبيعية الضخمة التي تم الكشف عنها اخيراً في أفغانستان ما زالت تحت الأرض وتتطلب استثمارات ضخمة. لذلك بدأ بعض الجمهوريين يتحدث عن ضرورة إعادة النظر في حرب أفغانستان وتخفيض نفقات الحرب فيها. العراق أمر آخر. باراك أوباما أراد الإسراع في الخروج من العراق، لكن الجمهوريين يريدون اعادة التفاوض على الاتفاقية الاستراتيجية بين الولاياتالمتحدة والعراق بهدف تقدم الحكومة العراقية المقبلة بطلب إعادة النظر في مواعيد سحب القوات الأميركية، أي إطالة البقاء لأبعد من السنة المقبلة. مسألة العراق ستكون مهمة في موازين التنازلات التي ستتطلبها العلاقة الجديدة بين الهيئة التنفيذية المتمثلة بالبيت الأبيض والهيئة التشريعية المتمثلة بمجلسي الشيوخ والنواب. وقد يكون العراق أسهل حلقات التفاهمات والتنازلات لأن الطلب بإطالة البقاء يأتي من الحكومة العراقية، مما لا يشكل تراجعاً لباراك أوباما. وثانياً، لأن باراك أوباما بدأ يستدرك ما أدت إليه سياساته نحو إيران وبدأ يفهم ان ساحات التعامل مع إيران ليست فقط داخل الأراضي الإيرانية حيث تخلى عن المعارضة هناك، وإنما في الساحات اللبنانية والعراقية والفلسطينية. فالجمهوريون يريدون إعادة التركيز على إيران لأسباب متعددة، منها انهم يرفضون قطعاً ان تمتلك إيران القنبلة النووية، ومنها أنهم لا يستثنون توجيه ضربة عسكرية أميركية - أو دعماً لضربة إسرائيلية – لأن سياسة أوباما خلال السنتين الماضيتين أثبتت فشلها الذريع في إقناع إيران بالتجاوب مع الديبلوماسية. في إمكان أوباما أن يشير الى نجاحات في سياساته نحو إيران، وبالذات في حشده دعم روسيا والصين وراء تعزيز العقوبات على إيران بقرار دولي في مجلس الأمن. بإمكانه الإشارة الى أهمية فتح صفحة جديدة مع روسيا، ثنائياً، وفي إطار العلاقات مع إيران، لا سيما ان هناك توتراً أو تدهوراً في العلاقة الروسية – الإيرانية. إنما ما لا يمكنه ان يزعم هو نجاح سياسة التوسل للحوار مع إيران ولا سياسة المسايرة لإيران أو لسورية. فلا العراق أمثولة لذلك النجاح، ولا لبنان حيث الأسوأ آت، جزئياً، نتيجة «الأوبامية» التي تنبهت قبل أيام فقط الى حصيلة استثماراتها التهادنية، فأصيبت بالهلع والذعر مما هو آت. ما أيقظ إدارة أوباما في الدرجة الأولى كانت زيارة الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد الى لبنان ووضوح دور «حزب الله» في الاستراتيجية الإيرانية والعكس بالعكس. أيقظته ثانياً تصريحات سورية على أعلى المستويات أوضحت للرئيس الأميركي اين هو وما هي حصيلة سياساته. ثم أتت الانتخابات النصفية لتوقظه الى ما هو مقبل عليه في مجال السياسة الخارجية المعنية بمنطقة الشرق الأوسط. وكمثال، ان مَن سيترأس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب هو ايليانا روس – ليتينيا، المقربة من السفير السابق المحافظ جون بولتون والمعارضة بشدة لإيران. الجمهوريون سيعيدون الحديث الى «إيران أولاً» قبل عملية السلام الفلسطيني – الإسرائيلي التي فشل باراك أوباما في إنضاجها بعد سنتين، مع انه قال عندما تولى مهامه ان لها الأولوية. رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو لا شك سعيد جداً بنتيجة الانتخابات النصفية لأنها ستؤدي الى خلاصه من الضغوط الأوبامية بحماية جمهورية. الذي سيحدث هو ان ذلك السلّم الشهير للتسلق هبوطاً سيُقدّم الى باراك أوباما كما سبق وتم تقديمه الى أسلافه. فالمسألة الفلسطينية – الإسرائيلية لن تعود من الآن فصاعداً في طليعة أولويات أوباما، بل ان التراجع عن إيلاء تلك المسألة الأولوية سيكون ملحوظاً. كذلك سيحدث تراجع عن اعتبار حل النزاع العربي – الإسرائيلي في عصب المصلحة القومية الأمنية الأميركية. وهذا سيكون نتيجة أمرين: اخطاء إدارة أوباما ومبعوثه جورج ميتشل في إدارة المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، والانتخابات النصفية التي جاءت نتيجتها لتقلّم أظافر باراك أوباما وتجعله رجلاً آخر غير ذلك الذي دخل البيت الأبيض قبل سنتين. فباراك أوباما لم يعد ذلك الرجل «الواثق الخطوة يمشي ملكاً» لأنه اخترق التاريخ كأول رجل أسود في البيت الأبيض وصله محاطاً بحماسة عالمية لا مثيل لها. إنه اليوم الرجل المُحاصر الذي أخفق. إنه الرجل المرشح للرئاسة وهو في المنصب. إنه الرجل المهدد بسحب الرئاسة منه لأنه بات يُعرف برئيس الولاية الواحدة. لعله يفاجئ العالم مرة أخرى ويشعل ثورة أخرى من نوع آخر. لكن باراك أوباما اليوم ليس باراك أوباما الأمس. ومن المهم له ان يعيد مراجعة شخصيته وليس فقط سياساته. فليس معقولاً ان يخسر أي رجل كل ذلك الزخم الذي أدخله البيت الأبيض في غضون سنتين فقط. ولأن العالم يساهم في صنع اميركا مهما كانت انعزالية أو عكسها، من المفيد جداً لباراك أوباما ان يغيّر سياسات أساسية وأن يكف عن سياسات انفعالية. عليه ان يعيد النظر في استراتيجيات عدة قبل ان تجره الى الانفعالية إجراءات وأحداث تمليها «القاعدة» في اليمن أو في لبنان، وتمليها إيران و «حزب الله» في لبنان أو في العراق، أو تمليها سورية في جيرتها اللبنانية أولاً والعراقية ثانياً، وتمليها إسرائيل على فلسطين ولبنان وسورية وكذلك إيران. فما سيستنتجه اللاعبون المحليون والإقليميون هو ان الانتخابات النصفية الأميركية أسفرت عن معادلات جديدة نحو المسايرة والمساومة والمقايضة أو المواجهة والتحدي. فهناك أدوات جديدة لاستئصال التنازلات من باراك أوباما. إنما هناك ايضاً حسابات جديدة لربما تنطلق من ان في البيت الأبيض اليوم رجلاً آخر.