لن يكون رحيل القاص المبدع والكاتب المميز صالح الأشقر رحيلاً عادياً، الرحيل الذي يؤشر إلى لحظة لم تعد واعدة بكثير من المباهج، فأصبح اختفاء الكتاب المبدعين إما موتاً أو مرضاً أو انعزالاً، واحدة من وجوه هذه اللحظة الكئيبة، مع ذلك يمكن للمشهد الأدبي أن يجد في سير هؤلاء الراحلين، الأشقر، مثلاً، ضوءاً رائقاً يحفر في تجارب وكتابات ميزت لحظتها واللحظات التي تلت، كتابات ستبقى ثائرة في الذاكرة والوجدان الجمعيين. من سينسى قصص صالح الأشقر «ضجيج الأبواب» و«ظل البيت»، التي حفلت بمقاربات جريئة للواقع، قصص لم تخلو من شاعرية ورؤية شعرية، تعكس ذلك التعقيد الذي يتخلل مراحل المجتمع وهو يسعى إلى التطور. ومن هو الذي لن يتذكر تلك المقالات التي كتبها في عدد من الصحف، وتناول فيها كتباً وروايات جديدة، وتطرق إلى قضايا الأدب والكتابة. يقول الروائي فهد العتيق عن صديقه الراحل: «القاص والمبدع والناقد الصديق الراحل صالح الأشقر، كتب قصته وفق شروطه هو، وفق طريقة صالح الأشقر.. المبدع والناقد والمثقف القدير، كتبها بلغته العالية والمتوترة، وحكايته ذات المضامين والصور والحالات الإنسانية الرفيعة جداً، كتبها صالح بطريقته التي تجاوزت الحكاية التقليدية واقتربت كثيراً من لغة النص المفتوح على أسئلة شخوص تعاني في واقع قاسٍ. لكنها الأسئلة ضمن حكايات فيها حالات إنسانية واسعة ومثرية للنص. قصص كتابه ضجيج الأبواب وجدت حفاوة نقدية جميلة بلغتها الشاعرية العذبة، وروحها الإنسانية العالية جداً. كتابه القصصي الثاني البديع «ظل البيت». قرأت قصصه في بيت صالح قبل طباعته وتحدثنا عن قصصه كثيراً، كما تحدثنا في بيته الثقافي المفتوح بصحبة كثير من الأصدقاء الكتاب عن كتب كثيرة صدرت في تلك الفترة، كان في لغة صالح ومواضيعها الإنسانية قوة وثراء وتأثير، وفي شخصية صالح الأشقر ميزة أحببتها، وهي، أنك تجد في جديته روحاً مرحة، وتجد في مرحه روحاً جادة، وكان هذا طريق لضحك طويل وذكريات جميلة بيننا، لكن القراءة كانت متعته الحقيقية، وقبل أشهر عدة كان حوار سريع بيني وبين صالح عن أحوالنا وأحوال الثقافة بشكل عام، وعن تغير الحال والأحوال، حدثني عن مجموعته القصصية الثالثة، وقال إن عنوانها سيكون «تكوين» ثم سألني عن المكان الأفضل لطباعتها. يواكب هذا عند صالح رؤية نقدية واسعة وغنية، وكتب ونشر عدداً كبيراً من المقالات النقدية حول كثير من الكتب الأدبية. وأذكر أنه تحدث للبرنامج الثقافي في إذاعة الرياض على الهواء مباشرة عن كتابي القصصي «أظافر صغيرة وناعمة»، وكتب عن قصصه رؤية نقدية. وكان صالح نشر لي نصوصاً كثيرة في الملحق الثقافي لجريدة الجزيرة، كما نشر لي فيما بعد قصتي «شروق البيت» من كتابي «إذعان صغير» في الملحق الثقافي لجريدة الرياض عام 1988، وقال لي: «أكمل هذه القصة الرواية». مثلما نشر للكثير من الكتاب والكاتبات في الصفحات الثقافية التي شرف عليها». ويمضي فهد العتيق قائلا: «في بيت صالح الأشقر حين كنا نلتقي نهاية الثمانينات الميلادية تدربت على قراءة الكتاب كاملاً في جلسة واحدة، قبل ذلك كنت أقرأ الكتاب في يومين أو ثلاثة أيام. أذكر قرأت في بيت صالح رواية الراحل الكبير عبدالعزيز مشري «الوسمية» كاملة في جلسة واحدة، ثم قرأت بعد ذلك رواية للأديب القدير الراحل إبراهيم الناصر أيضاً، وتحدثنا طويلاً عن هاتين الروايتين. في تلك الفترة أيضاً قرأنا مع صالح وبعض الأصدقاء كتباً ونصوصاً قصصية كثيرة لعدد كبير من المبدعين، من بينهم جارالله الحميد، وعبدالعزيز الصقعبي، وأميمة الخميس، وحسين علي حسين، وعلي الشامي، وسعد الدوسري، ومحمد علوان وغيرهم. كنا نتحدث كثيراً عن هذه القصص والكتب والفوارق الفنية والموضوعية بينها». ونعى الراحل عدد من الأصدقاء وممن عرفوه كاتباً وإنساناً، في مواقع التواصل الاجتماعي، فيقول عنه الشاعر محمد الدميني: «رحل عن حياتنا الصديق القاص صالح الأشقر، تغمده الله بواسع رحمته. لعله ترجّل عن الألم الكبير الذي غشي حياته خلال العام الماضي، واستراح من كل الأدوية والعلاجات الإشعاعية والكيميائية». ويضيف الدميني: «تجربة صالح الأدبية والصحفية يمكن قراءتها في مجموعتيه القصصيتين «ضجيج الأبواب» و«ظل البيت»، وفي عشرات المقالات التي كتبها في صحف الجزيرة والرياض واليمامة وخصوصاً في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وهو صوت ثابت في تجربة القصة القصيرة في أدبنا الجديد». ويؤكد أن صالح الأشقر كان أيضاً «قلباً مفتوحاً في الرياض، ومنزلاً نسكنه وننام فيه، ونلتقي فيه بنخبة من أصدقاء تلك المرحلة أدباء وصحافيين وتفتح فيه نقاشات لا تحصى في السياسة والأدب والفكر، وتراجع فيه آخر الكتب أو الدوريات، وكان الزمن آنذاك مغلقاً فلا منابر أدبية تستحق عناء الزيارة، ولم تكن الكتب سوى طرائد في الجمارك وفي المكتبات المحلية، وكانت فكرة الرأي الآخر عواناً مبيناً، وكانت بعض المنازل في الرياض والشرقية وجدة (وبينها منزل صالح الراحل)، هي الأماكن الصالحة للحديث والأمل وانتظار ما لا يأتي...! وداعاً يا صالح الذي لن يموت في قلبي.. وسيبقى حياً في أفئدة أبنائه وأهله وأصدقائه فلهم جميعاً تعازيّ الحارة». وينشر الدميني قصيدة كتبها من أجل الراحل نشرها في عام 1993 وتضمنتها مجموعته الشعرية «سنابل في منحدر»، ويقول فيها: «بعد كل شيء/ من أجل فكرة يسيرة/ تشبه خليّة سرطان نائمة/سنقترض/المال، والسهر، والصداقة/وسنفتح من أجْلها/النوافذ/والكتب/والمسرّات/وبعد كل شيء/بعد أن يندلع النسيان/من حليب الصّبية/وترتطم اليقظة/بأساطير/كنّا سجّيناها للتوّ/سيأتي الفجر بمعاوله وشاحناته/ويرفع الأحجار/ والرطوبة/عن أيّامنا/السنابل اللقيطة/التي لن نُحْسن انتزاعها/من أشداق الحيوانات...». في حين تقول الدكتورة فوزية أبو خالد: «صالح الأشقر، رجل من شيم الصبر والعفاف كاتب من رفيف الحلم والشغف، إنسان من كفاح وصفح، عتقه الرحمن من ضيق المرض لرحاب الحرية في مستقر رحمته». وعده الدكتور عبدالله الغذامي هو وجيل معه «شعلة لحركة شبابية في الملحقات والأندية، وعمروا الثقافة حيوية وتفاعلية». وكتب الكاتب عبدالكريم العودة: «أسبوع الآلام! رحمك الله أبا طارق. وسلام عليك يوم ولدتَ، ويوم رحلتَ، ويوم تُبعث حيّا، لا تتسع اللغة لحزننا عليك». ويكتب أحمد أبودهمان: «مساء الحزن يا حائل، يا مداد الوطن وحبره. بالأمس فقدتِ الشاعر، واليوم تفقدين الكاتب صالح الأشقر». ويخاطب الكاتب منصور عثمان رفاقه قائلاً: «يا رفاقي ليس لي جناح لألحق بكم ولا لهذا الوطن: الثبيتي، الرشيدي، الأشقر. كم غادر هذا الزمن صالح». شجع الأجيال الجديدة وفتح لها آفاقاً أكد الروائي والقاص خالد اليوسف أهمية الراحل في المشهد الثقافي الأدبي، وأن دوره كان مفصلياً في تطوير القصة وفتح آفاق جديدة لها، مؤكداً أيضاً عدم نسيانه مؤازرة الراحل له في بداياته في الكتابة، إذ يذكر: «لن أنسى أبداً بدايات كتابتي ونشري للقصة القصيرة في جريدة الجزيرة، وكان من أوائل الذين شجعني على الاستمرار في كتابتها ونشرها في جريدة الجزيرة». ويشير اليوسف إلى أن جيله: «يتذكر تلك المرحلة المهمة في حركتنا الأدبية، وهي بدايات الثمانينات الميلادية، ويشهد بذلك الإخوة حمد القاضي، ونسيم الصمادي، وصالح الصالح، وصالح الأشقر، وسعد الدوسري، الذين أقاموا القسم الثقافي في جريدة الجزيرة». وأضاف أن الراحل «فرح كثيراً عند صدور مجموعتي الأولى، واحتفى بها مع عدد من المجموعات آنذاك، رحمه الله. كذلك لن أنسى العدد الكبير من اللقاءات والحوارات الأدبية والثقافية، التي شجعني على القيام بها ومن ثم نشرها». ويوضح القاص والكاتب جبير المليحان أن الراحل «كان يرى الدهشة خلف العادي. رجل يرينا كم هو الجمال الكامن داخل أبطال قصصه، وكم هي قساوة الحياة في تفاصيلها الصغيرة الغائبة. هو كاشف ومكتشف لخبايا النفس في مواقفها تجاه تفاصيل الطبيعة». وقال المليحان: «أمس انكسرت الدموع في داخلي، وخبر رحيله يصل إليّ سريعاً بأجنحة سوداء. يا صديقي الراحل المرحوم صالح الأشقر كم هو مؤلم فقدك. كيف لنا أن نستمع إلى (ضجيج الأبواب) التي تركتها مفتوحة على كل ألم! كيف لنا مع ضجيج الحياة المتشعب كما آلام الواقع الحاضر والبائس والمليء بالنكسات والحروب والإرهاب! ألم تكن تغني لنا برهافة وسط حقول كلماتك العذبة! لقد رحلت إلى الهدوء المطلق، إلى حيث ظل بيت الرحمة. عرفتك منذ زمن بعيد، رجلاً هادئاً، متسامحاً، ورقيقاً مع الكل. لم أشاهدك متذمراً غير مرة عندما ألقى صديق لنا عقب سيجارته ونحن نعبر الطريق. كم تبادلنا الحرف والرسم وأحزان الكتابة». ويمضي قائلا: «لقد رحلت، وأبقيت لنا تلك الحساسية الدقيقة لكل كلمة كتبتها، مختاراً معناها بدقة. ليس هذا فقط، إنما كنت تصوغ قصصك بأسلوب ممتع وممتنع. إن من يقرأ قصصك في مجموعتك «ضجيج الأبواب: أو «ظل البيت» سيجد ذلك واضحاً في كل الأسطر، سيجد المعاني تتدفق بسلاسة كماء نهر. لك الرحمة يا صديقي. والعزاء لأسرتك الصغيرة، وأسرة السرد الكبيرة. ولنا تتبع ضوء أحلامك الممتدة».