(إلى ذكرى بديع الزمان الهمذاني) حدَّث سهم بن كنانة قال: اتفق لي نذرٌ نذرته أن أتصدق بريال على من يفتيني في نظام ساهر، الذي اختلف الناس في وصفه بين "باهر" و"قاهر"، فدللت على أبي نصر العزاز، فذهبت إليه، لأطلب الفتح على يديه، فوجدته في استراحة بشرق الرياض، وعلى محياه شيء من الانقباض، وقد أحاطت به رفقة، تنظر إلى عينيه وتسمع نطقه، فقلت: يا بني يَمام، أيكم أعرفُ بالساهر، وأقدرُ على تمييز الخبيث من الطاهر، فأعطيه هذا الريال، فقال العزاز: أنا، وقال آخر من الجماعة، لا، بل أنا، ثم تحاورا وتشاجرا، فقلت: ليبسط كل منكما رأيه، فمن انتصر ظهر، ومن فاز جاز. فقال العزاز: ألا ترى إلى نظام ساهرْ، وكيف بات بالتجسس يجاهرْ، فلا غرٌ ينجو منه ولا ماهرْ، ألا تراه يرصد كل راحلة، ويستدرج كل قافلة، مطلقاً للغدر عنانَه، ومبتغياً السلبَ مظانَّه، يلتقط في كل آنٍ الصورْ، ويكاد يصيبُ بالرمد من به حورْ؟ ها هو شاخصٌ في كل سارية، ماثلٌ في كل ناحية، يخترم الجيوبْ، ويختلق العيوبْ، ينشر الفَرَقْ، ويمصُّ العرَقْ، ويُسلم العيونَ للأرقْ، يمطر الناس بالقسائم، ويملأ الخزْنَ بالغنائم، غير آبهٍ لمقهور، ولا ناظرٍ لمعذور، ولا قابلٍ شكوى هائم، ولا خائفٍ لومة لائم، فكأن المخالفات همومُ البشرْ، أو عواصفُ لا تبقي ولا تذرْ، أو أوزارٌ يحملها الخلق على ظهورهم، أو ضرائبُ يدفعونها من أجل مرورهم، بل هي لعمري أشد وأنكى، وكم من شأن أضحك وأبكى، هي لعنة الحداثة، تطاردنا كمقاتلة نفاثة، فتسلبنا حرية الطريق، وتجعلنا نمشي كالبطريق، تصطادنا بالومضْ، وتهددنا بالقبضْ، وتخنق أنفاسنا في العلنْ، فلا شام تؤوينا ولا يمنْ، أين المفرُّ من جاثمٍ يتربصْ، وقابعٍ يتلصصْ، وباترٍ للعلاقة، وشانىءٍ للصداقة، يباعدُ الأخ عن أخيه، ويضربُ الرجل ببنيه، يفرِّق الدم بين القبائلْ، ويخلط الأوراق والمسائلْ، يخاصم ويحكمْ، ويفاجىء ويشكمْ، ويكمن ويهجمْ، ويقبل ولا يحجمْ، كأنه ابن ملجمْ، الناس عنده متهمون، ويزعم أنهم لا يعلمون، عينه لاتنام عن الصيد، فكم من عمرو أوقع ومن زيد، لايعرف الحنانُ إلى قلبه سبيلا، وما أوتي من العلم إلا قليلا، ويزعمون أنه لا يعرف خليلا، ولا يرى سوى الحق دليلا، فيرتلون نفاقهم ترتيلا: قم حيِّ ساهرَ وفه التبجيلا/نجماً أضاء روابياً وسهولا. غنِّ القصائد في بديع نظامه/وانثرْ له الترحيب والتأهيلا.قل: كم جميلٌ أن يحل بدارنا/ضيفاً فهل نجزي الجميل جميلا.قلدْه فوق العرش تاج إمارةٍ/واهتفْ: أبيتَ اللعن دمتَ طويلا. سلمتْ رسائله خبيراً راصداً/يلقي الشباكَ ويُحسنُ التكبيلا. وقضاؤه شمسُ العدالة هل ترى/للشمس إذ تمحو الدجون دليلا. أمسى ملاذاً للسراة وواحة/ للمتعبين مناعة وقبيلا. وجدوا الأمان على تخوم قلاعه/من بعد ما ذاقوا العذابَ وبيلا. كاميراته لا شيء يحجبُ قصفها/كم قد أطاحتْ سادة وفحولا. ما عدتَ تبصرُ قاطعاً متهوراً/أو مارقاً كالسهم خفَّ عجولا. أما الكياسة فهو شيخُ فنونها/يُحصي البنود ويُحكم التأويلا. لكنه يرعى العدالة حازماً/والعدلُ أليقُ شيمة وميولا. علم الزمانُ مكان ساهرَ فارتمى/في حضنه يُسدي الثناء جزيلا. قمْ حيِّه واهتفْ بطول بقائه/واطبعْ على عدساته التقبيلا. سرُّ الحضارة نورُها ولهيبها/أرخوا على الزمن الكئيب سدولا. هكذا بجرة قلم، أحالوا النكرة إلى علم، وجعلوا مأتمه احتفالا، وصيروه للرحمة مثالا، وليت شعري كيف لآلة صماء أن ترحمْ، وإذا خاطبها العاقلون أن تفهمْ؟ أنى يكون لها قلبْ، وهل يلين لضرس الماضغ الحجرُ الصلبْ؟ ويزعم قوم أننا طوَّعنا بساهر التقانة، ورفعنا به عن المارقين الحصانة، وأقول: لكنه أتى بعد طول إهمال، وخنق آمال، وغيابٍ للشرطة عن مواقع الازدحام، وتأخرٍ عن رصد حوادث الاصطدام، وضعف التوعية بما للسائق وعليه، وفتح باب التخبط على مصراعيه، فجاء قفزة غير محسوبة، وفكرة غير محبوبة، ومن المعلوم أن التطورَّ قد يصبح عقبة، وأن حرقَ المراحل يكسرُ الرقبة، ثم هل كملت البنية التحتية، وماذا عن المطبات العشوائية، ألم ترها كيف تحولت إلى كمائنْ، وأزهقت الأرواح والمكائنْ، وتناسلت في كل المَواطن، حتى قيل: مطبٌ لكل مُواطن؟ فأيُّ مزيةٍ بعد هذا لساهرْ، وأيُّ فضلٍ له في الباطن والظاهرْ؟ لقد حَرَمنا لذة العيش، باسم الأمان والحرب على الطيش، وجعلنا غرضاً لسهامه، ومرمى لطَغَامه، زاعماً اتساقَ نظامه، واتضاحَ مرامه، وأنه إنما ضحى من أجلنا بمنامه، مُستظهراً بخلابة ألفاظه، واتساع ألحاظه، دافعاً بكراهيته للمُكوسْ، وإعراضه عن الفلوسْ، وحرصه على حفظ النفوسْ، مسكينٌ هذا النظام، لا نقدره- فيما يزعم- حق قدره، ولا نستعيذ بالله إلا من شره، لا يلتقط بسببنا أنفاسَه، ولا أحد منا يفهم إحساسَه، فيا له ويا لنا، ويا لعطفه أظلنا، من يشتري (ساهراً) بنومْ، ومتى يحين الخلاصُ ياقومْ؟ ثم قال الآخر: كفى به ساهرا، وللمشاغبين قاهرا، يبث فيهم الفَرَقْ، ويجلب لهم الأرقْ، ويبعث في المدائن حاشرينْ، يأتونه بكل عابثٍ مهينْ؛ محلقاً كما حلق الطيرْ، ومؤمِّناً سلامة السيرْ، فأين الجُرمُ والضيرْ؟ أليس كلُّ همَّامٍ وحارثْ، يتوق إلى تقليل الحوادثْ، التي صنعت لأمتنا الكوارثْ؟ وأيِّم الحق إن تفريغَ الجيوبْ، وتفنيدَ العيوبْ، والصبرَ على ذلك صبرَ أيوبْ، خيرٌ من مرارة الفوتْ، وحشرجة الصوتْ، وتجرع الموتْ، لماذا نضيق بساهر ذرعا، وقد أشبع المنتهكين قرعا، فتراهم من الإفلاس صرعى؟ يرقبهم عن كثبْ، ويفجؤهم كالضرغام إذ يثبْ، يدوِّن مدى سرعتهم، وهم في أوج سكرتهم، فيضبطهم بالجرم المشهودْ، وعيون الكاميرات شهودْ، وهيهات المفر من التقاطه، وهو يوثق الناس برباطه، آخذاً في كل حين أهبته، ومطلقاً في جوف الليل أعنته، العدساتُ خلْفٌ وأمامْ، فأين المفرُّ من النظامْ، لم يبق إلا الالتزامْ، وأراك تشبِّه المخالفات بهموم البشر، وتقرنُها بالذنوب الكبر، ولاريب أن الجبال من الحجر، والنار من مستصغر الشرر، دعهم يتأملوا الصورْ، ويدققوا النظرْ، ويستخلصوا العبرْ، ويستنبطوا الفكرْ، ويدركوا أنه لا مفرْ، من شيء قد قُدرْ، وربما يُؤتى من مأمنه الحذِرْ، ليمطرْنا ساهرُ بالقسائمْ، وليوقظْ بوميضه كلَّ نائمْ، فقد أرَّقنا تتابعُ الجراحْ، وأوجَعَنا الاستخفافُ بالأرواحْ، وحملُ الضحايا على ألواحْ، من غير جريرة ولا جُناحْ، ليشفِ أنفسَنا مما تجدْ، وليستبدَّ مرة فالعاجزُ من لا يستبدْ، ولا أخالك تجهلُ ما فعلته السرعة بالناسْ، حتى مُنوا بخبطٍ وشِماسْ، وبكى بعضُهم بكاء خناسْ، كم سالت بأعناق الطِّفلِ الأباطحْ، وجرفتْ دماءَهم الرياحُ اللوافح، كم قضوا على جنبات الطرقْ، وغصَّ بهم الموتُ وشَرَقْ، وكم من فتى أصبح معاقا، وبات إلى لهو الحياة مشتاقا، وكم ذرفت الدموعَ مآقي الحسانْ، ووارتْ أجسادَهن نفودٌ وصمانْ، وما من منادٍ نادى بالردعْ، وما من يدٍ كفكفت الدمعْ، بل جاؤوا بسلوكٍ عبيطْ، وكيانٍ لقيطْ، سموه التفحيطْ، فحصد من الأرواح ما حصد التتارْ، ودفع مجتمعنا إلى شفا جُرُفٍ هارْ، مشوِّهاً معنى الفتوة، وجاعلاً الاعتبار للقوة، ومحوِّلاً الحديدَ إلى هُوية إثباتْ، ومهمِّشاً قيمة الموت والحياة، حتى أطل ذلك الباهرْ، الفتى العبقريُّ ساهرْ، فانقضَّ على الفوضى انقضاضَ ابن الجراحْ، وطاردها كما طارد الفرنجةَ صلاحْ، وضرب بحزمٍ على يد المخالفينْ، كما ضربت التفرقَ يدُ ابن تاشفينْ، وردَّ عن السبل صولة الأشرارْ، كما رد نابليونَ أحمدُ باشا الجزارْ، وربما كانت لهذا الساهر هناتْ، وصدرت عنه تجاوزاتْ، وحمَّل وازرةً وزر أخرى، وقهر بعض الأبرياء قهرا، وزارنا بعد طول نوم، ولا بأس هنا بشيء من اللوم، غير أن الحسناتِ يذهبن السيئاتْ، والتطورَ من سنن الحياة، والتصحيحَ قدرٌ ماضْ، وليقضِ الله ما هو قاضْ، أما حديثك عن التجسس، فدعك يا صاح من التحسس، وانظر إلى الأمر بمنظار أشمل، وتطلع إلى غد أجمل، وقديما قيل: "الزين ما يكمل"، ثم إنه تجسسٌ ودودْ، وتلصصٌ محمودْ، وشعبنا بعون الله مجدودْ، وقد قالت ثومة: "للصبر حدودْ"، وربما انبثقت الحرية من زرد القيودْ، وتدفق الماء من خلل السدودْ.. يا ساهراً لا يبتغي التكبيلا/ومراقباً لا يرتجي التعطيلا. اضربْ بسيف الحق غيرَ مذممٍ/وافتكْ ولا تخشَ الزمان عذولا. العابثون فلا تُقلْ عثراتِهم/اجعلْ لهم ليلَ الحُبوس مَقيلا. المارقون على الأديم تجبراً/من أسرفوا في أرضنا تنكيلا. الآكلون وأنت أفضلُ آكلٍ/لا تعرفُ التدليع والتدليلا. لتجسْ خلال ديارنا في همةٍ/سيفاً على أقدامهم مسلولا. بشرى السكينة أن تسافرَ في الدنا/طرفاً أحَدَّ وساعداً مفتولا. بوركتَ تحقنُ للسراة دماءهم/وتزيلُ لليأس المرير فتيلا. بوركتَ تحفظُ للديار أمانَها/لا مُحجماً خوفاً ولا مخذولا. تُزجي إلى غدها البشائرَ جمَّة/وتزفها لجبينها إكليلا. أجلبْ على اللاهين في نزواتهم/الماردين شبيبة وكهولا. ليروا على عينيك فجرَ خلاصهم/أنعمْ بطيفك مستبداً غولا.طمستْ يداك من الضلالة غيهباً/فزهوتَ فوق رؤوسنا قنديلا. وهمتْ على الطرقاتِ منك هواطلٌ/فبللتَ في صدر الزمان غليلا. غنت لفتحك أمةٌ منكوبةٌ/رفعتْك رمزاً للفتوح جليلا. يا ساهراً ومسهِّراً أوشكتَ أن/تغدو إلى هذي البلاد رسولا قال سهم بن كنانة: فوالله ما علمتُ أيَّ الرجلين أولى بالنذر، وأحرى بالشكر، فكلاهما أبلى في الدفاع عن حجته، حتى كاد يفدِّيها بمهجته، فرميت الريال بينهما، وانصرفت وما أدري ما صنع الدهر بهما. * أكاديمي وصحافي سعودي.