منذ مطلع القرن العشرين ظلت الثقافة السياسية العربية عاجزة عن توطين مضامين النزعات والتحولات الفكرية والسياسية الكبرى، التي كانت ظهرت في المجتمعات الغربية، وبالخصوص منها نزعات العلمانية والليبرالية والديموقراطية والشيوعية والقومية، والتي كانت أسست لحداثته ونهضته، وأيضاً لمجادلاته وانقساماته. وكما هو معلوم فقد تمت محاربة كل هذه التيارات بدعوى أنها مستوردة من الغرب وباعتبارها دخيلة على الواقع والثقافة العربيين، في وضع عربي كل شيء فيه مستورد، من الملابس، إلى تنظيم الجيوش والطرق والمدن، ومن أنظمة التعليم والصحة والريّ والقضاء والاقتصاد والحكم، إلى العادات الاستهلاكية والترفيهية والصحية؛ ناهيك عن الثلاجة والغسالة والتلفاز والساعة والمكروييف والمكيف والسيارة والطيارة والكومبيوتر والهاتف والموبايل وشبكة الإنترنت، والبنوك والجامعات والمستشفيات والمصانع والشركات. في هذا المجال لا نضيف جديداً إذا قلنا بأن ثمة انفصاماً في التعاطي مع منجزات الحضارة الغربية (المادية والاجتماعية والثقافية)، باعتبارها منجزاً إنسانياً، إذ ثمة قابلية للتعامل مع منجزات الغرب المادية (العلمية والتكنولوجية)، وطرق الإدارة والتنظيم والترفيه إلى حد ما، في حين ثمة حذر شديد، مشوب بالعداء احياناً، في التعاطي مع منجزاته في حقول الثقافة والفكر والفن والمجتمع والسياسة. وبديهي فإن السلطات المهيمنة في المجتمعات العربية، وهي سلطات دولتية وروحية وقبل مجتمعية، تسعى إلى محاصرة هذه المنجزات، والتشكيك بشرعيتها والحطّ من قيمتها، في محاولاتها ترسيخ هيمنتها في مجتمعاتها، وحتى ان هذه «السلطات» غالباً ما تتواطأ في ما بينها، بحسب كل واحدة وأغراضها. وفي ذلك فإن هذه السلطات (على تفاوت واختلاف مكانتها وأدوارها) تقف حجر عثرة في وجه مسارات التطور والحداثة، بل إنها ذاتها مسؤولة عن نشوء واقع من التطور المشوه، أو «التحديث من دون حداثة» في بلداننا، طالما تبيح الأخذ بوجه من اوجه الحداثة في حين تحجب وجهها الآخر. على أية حال فإن مدركات الثقافة العربية السائدة للأفكار المذكورة جاءت جد متفاوتة، إذ تم تمثلّ فكرة القومية، مثلاً، أكثر من غيرها (مع انها فكرة غربية)، بسبب وجود خلفيات تاريخية وثقافية لها، وبواقع استنادها لزعامة كبيرة بحجم الرئيس جمال عبد الناصر، ولنا ان نتخيّل مآلات هذه الفكرة لولا هذه الزعامة؛ بدليل عدم نشوء احزاب قومية، إذا استثنينا حزب البعث (الذي نشأ في سورية والعراق اساساً)، وحركة «القوميين العرب» (التي انتهت في فترة مبكرة). وبالنسبة لفكرة الشيوعية فقد لاقت نجاحاً محدوداً، في مراحل معينة، على خلفيات سياسية فقط، وليس لاعتبارات أيديولوجية أو ثقافية، أي بحكم قوة الاتحاد السوفياتي، وشبكة العلاقات التي كانت ربطته بالأنظمة (كما بالأحزاب الشيوعية) في البلدان العربية، وبواقع المناخ الجماهيري المعادي للأمبريالية الأميركية المتحالفة مع إسرائيل؛ وربما بحكم توق الناس في هذه البلدان للعدالة الاجتماعية (المتضمنة في فكرة الاشتراكية) أيضاً. أما فكرة الديموقراطية فقد لاقت قبولاً أكبر، بالقياس لغيرها، في الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية، باعتبارها تغذي الحاجة، عند أطراف وتيارات متضاربة، للتغيير السياسي، وتمهد لوضع حد لنظام الحكم المطلق، وللتخلص من ويلات الفساد والاستبداد، في آن. وكان أن بات ثمة نوع من إجماع على الديموقراطية لدى مختلف التيارات الفكرية والسياسية العربية (يسارية وإسلاموية وقومية ووطنية وليبرالية وعلمانية)، باستثناء بسيط، فقط، يتمثل بالأنظمة المتسيدة التي ناهضتها العداء؛ مع الأخذ في الاعتبار أن كل تيار اشتهى الديموقراطية كوسيلة، وبالمعنى المحدود لها. مقابل ذلك فإن فكرتي العلمانية والليبرالية ظلتا في مكانة محاصرة، أو هامشية، أو في مكانة استبعادية وعدائية في الثقافة السياسية السائدة. الأولى (أي العلمانية) بسبب عداء التيارات الدينية لها على طول الخط، إلى درجة «التكفير»! وأيضاً بسبب عدم هضمها من قبل التيارات الأخرى (القومية والوطنية والليبرالية)، التي أبدت أيضاً نوعاً من الانتهازية في تعاطيها مع فكرة العلمانية (وهذا ينطبق على النظم السياسية السائدة)؛ وذلك بدعوى مراعاة الميول الدينية في المجتمعات العربية، وبهدف توظيف المشاعر الدينية في الأغراض السياسية. أما الثانية (أي الليبرالية) فقد نبع العداء لها من عدم تبني معظم التيارات السائدة قضايا الحرية والتحرر، أي حرية الرأي والفكر والمرأة والأفراد والجماعات، ومن ضعف الثقافة الحقوقية، وأيضاً بسبب ارتكازها إلى فكرة الفرد المواطن، والمساواة أمام القانون، وفصل السلطات، والدولة الدستورية، في واقع يؤبد السيطرة الأحادية والشمولية (الأب في الأسرة وزعيم العشيرة في عشيرته، ورجل الدين في مسائل الدين، وزعيم الحزب في حزبه، ورئيس الدولة في دولته). على أية حال فإن الدعوة إلى العلمانية لم تلق ما كابدته الليبرالية من إشكاليات أو ادعاءات، مع أنها في حقيقتها دعوة للحرية والتحرر، للأفراد والمجتمعات، إزاء مختلف أنواع الهيمنة الفكرية أو السياسية، المجتمعية أو الدولتية. هكذا وصمت الليبرالية بشبهة التبعية السياسية (وليس فقط الفكرية) للغرب (المتحالف مع إسرائيل)، أي أنها وصلت إلى درجة «التخوين»، مع إن قوامها التحرر من أية تبعية، ربما لارتباط هذه الفكرة بالفئات المدينية التي صعدت في بلادنا في مرحلة الاستعمار، وأسست للاستقلال، في بلاد عانت من الاستعمار. ومشكلة الليبرالية عندنا، أيضاً، إنها ارتبطت بالليبرالية الاقتصادية، أكثر من ارتباطها بالدولة الدستورية وبالحريات السياسية وبحقوق المواطنين، ما وضعها على الضد من العدالة الاجتماعية، في مجتمعات ترزح تحت نير الفقر والحرمان. المفارقة اللافتة ان الفكرة الليبرالية راجت في البلدان العربية في المجال الاقتصادي، وفي مجال علاقة البلدان العربية مع الدول الغربية، أي فقط في المجالات التي نبذت من اجلها، في حين انها ما زالت محاصرة، وموضع شبهة في المجالين السياسي والثقافي، حيث الحاجة لها ملحة. ويستنتج من ذلك أن العداء لهذه الفكرة إنما هو عداء مصطنع، ومزيف، وهو عداء يستهدف فقط المضامين السياسية والحقوقية لفكرة الليبرالية، التي قوامها احترام حرية الفرد وحقوق الإنسان وقبول الرأي الآخر والتسامح مع المختلف والمساواة أمام القانون، والمواطنة في المجتمع وإزاء الدولة، وإعلاء شأن الدستور. وعلى ما يبدو فإن هذه المضامين، في منظور غالبية النظم القائمة، والتيارات الفكرية والسياسية السائدة، من المحظورات، والمستوردات والبدع الدخيلة على عقيدتنا ومجتمعاتنا وتقاليدنا؛ كونها تشكل تهديداً لهويتنا، ولحال الاستقرار والسلم والازدهار التي نرتع فيها في بلداننا.