الأشرطة الخبرية الراكضة أسفل الشاشات متخمة بما لذّ وطاب من الأرقام. كل من له شكوى أو يعاني مظلمة أو يقاسي نقصاً في سلع أو يئن تحت وطأة شح دواء أو يبحث عن فرصة سكن آدمي ينقذه من براثن العشوائيات أو ينتابه قلق من شيء أو شخص، ما عليه إلا أن يتصل بالرقم المرفق، كل في مجال أوجاعه ونطاق آلامه وساحة مآسيه. التنويعة الكبيرة والتشكيلة العريضة من الأرقام لا ينقصها سوى أن تكلل بعبارة «طلباتك أوامر» أو تذلل بجملة «الزبون دائماً على حق». حق المواطن في الشكوى وقدرته على توصيل صوته إلى المسؤولين ونقل آلامه إلى أولي الأمر وبث أوجاعه إلى الجهات المختصة، تظهر جلياً على الشاشات على مدار الساعة ويبث صوتياً في المحطات بين الفقرة والأخرى. بعضهم يراها آلية طال انتظارها. وآخرون لا يثقون في صدقها، وفريق ثالث لا يعتد بها خارج إطار مفهوم الإسفنجة التي تمتص الغضبات الزائدة وتؤجل الفورات الهائجة وترحّل الاحتقان من خانة «شديد جداً» إلى خانة الانتظار. ينتظر المصريون حالياً أن يخرج عليهم مسؤولون بعينهم ووزراء أكثر من غيرهم لمناقشتهم ومشاركتهم في حجم الأزمات ومقدار العلاجات وتقويم التوقيتات اللازمة للعلاج أو حتى لمصارحتهم بأن المرض لم يعد قابلاً للعلاج أو خاضعاً للتدخلات، الجراحية منها والمسكنة. لكن حين طال الانتظار واشتدت المشكلات وتواترت الأزمات من دون أن تلوح الحلول في الآفاق، تحولت نبرة المتصل الشاكي من الأسى إلى الغضب، وتبدلت اللهجة من التراجيديا والبكاء لترقيق القلوب وتفتيت الجمود إلى الكوميديا السوداء حيث السؤال عما أصاب الحكومة من مكروه يمنعها من الظهور أو ما ألمّ بها من كروب تحول دون وضع الحلول. الحلول الافتراضية والسيناريوات الفضائية والإفتاءات الإذاعية، وحتى إفراد المساحات والساحات والساعات لاستقبال مداخلات هاتفية ومشاركات شعبية لمواطنين متضررين من نقص سلع غذائية أو شح أدوية أو فساد في جهات حكومية أو احتياج لسكن يضمن حياة آدمية أو استغاثة من بلطجة، لم تعد تكفي لسد رمق المواطن أو تهدئة روعه أو سد نقصه أو تحقيق غرضه. «الغرض من الأرقام الجديدة سهولة الرد على شكاوى المواطنين للتحقق منها وإعادة الحق إلى صاحبه»، يقول المسؤول الكبير لطمأنة جموع المصريين إلى أن آلية الشكوى باتت مفعّلة وأصبحت التعاملات فيها محكمة. فتسأله المذيعة: «ولكن ماذا حدث للأرقام القديمة والتي لم يكن يرد عليها أحد؟». يطمئنها المسؤول بقوله: «لم أكن مسؤولاً في حينه. اسأليني عن الأرقام التي أعلنها اليوم». الأرقام صارت ملء السمع والبصر والتصريحات وأسفل الشاشات. لشكاوى نقص الأدوية والمستلزمات الطبية اتصل على الرقم كذا، لشكاوى الاستيلاء على أراضي الدولة اتصل على الرقم كذا، لشكاوى إدارات المدارس الخاصة اتصل على الرقم كذا، لشكاوى الصرف الصحي اتصل على الرقم كذا، لشكاوى الكهرباء اتصل على الرقم كذا، لتلقي استغاثات وشكاوى المواطنين الأمنية اتصل على الرقم كذا، للشكاوى البيئية اتصل على الرقم كذا، لإرسال شكوى إلى هيئة الرقابة الإدارية اتصل على الرقم كذا، ولشكاوى حماية المستهلك اتصل على الرقم كذا، ولشكاوى التموين والبطاقات والسلع الغذائية اتصل على الرقم كذا. والأرقام المعلن عنها سيل ينهمر على جموع المواطنين الغارقين في المشكلات التي تعدى جانب منها مرحلة الشكوى أصلاً حتى بات المواطن العادي يتحدث عن ظاهرة أرقام الشكاوى باعتبارها «صمام أمان» تستخدمه وزارات وهيئات لنزع فتيل الغضب وتسويف المكاشفة وتأجيل المصارحة. أحدث المنضمين إلى صمام الشكاوى وزارة التموين والتجارة الداخلية (إحدى أبرز الجهات التي يشكوها المواطنون إلى السماء مباشرة) والتي أفرد وزيرها اللواء محمد علي مصيلحي مساحة معتبرة من التصريحات عن تفعيل الموقع الإلكتروني ومركز معلومات الوزارة لضمان الاستجابة السريعة لكل شكاوى المواطنين وحلها فوراً وإبلاغ المواطنين بنتيجة الشكوى وما تم إنجازه. وبدل الاتصال بالأرقام المعلنة أو التواصل على البريد الإلكتروني، فضّل مواطنون أن تكون شكاواهم «على عينك يا تاجر» حيث يسردون تفاصيل ما يتعرضون له من مماطلة وتسويف من موظفي التموين، أو عبارة «ما فيش» (لا يوجد) المرتبطة ارتباطاً شرطياً بكلمة «سكر»، أو بكائيات على أنقاض الدجاج المستعر أو اللحم الملتهب أو السمك المشتعل، وذلك تعليقاً على أخبار المواقع الصحافية أو أثير الشبكة العنكبوتية أو مع كوب شاي مر أو مُحلى بعسل النحل، وفي أقوال أخرى «عسل أسود». حتى نتيجة الاستطلاع الذي أجراه المركز المصري لبحوث الرأي العام «بصيرة» وأشار إلى أن 73 في المئة من المصريين يؤيدون مقاطعة شراء السلع الغذائية كسلاح تأديبي للتجار الجشعين، والتي يستخدمها إعلاميون كثيرون باعتبارها نموذجاً لوعي المواطن المصري ومشاركته في مواجهة الغلاء بأسلحته الشعبية الفتاكة، يلفت بعضهم إلى أن لها دلالة مختلفة، فالمقاطعة لم تعد خياراً شعبياً بل حل أحادي لسببين: الأول عدم وجود بدائل مطروحة من الحكومة لضبط الأسعار والسيطرة على الأسواق وحماية المستهلكين باستثناء مسكنات خدمات الشكاوى، والثاني لأن «ما فيش فلوس» ما يخلط المقاطعة بالانقطاع.