من النادر أن يجد الإنسان اليوم صحافياً إسرائيلياً ينتقد سياسة حكومته في الأراضي المحتلة أو يدين معاملتها للفلسطينيين، أو يتعاطف معهم: فذلك يعتبر شذوذاً عن القاعدة، وخروجاً عن المألوف ويحمل معه تبعات التهمة باللاوطنية من الحكومة والمجتمع الإسرائيلي على حد سواء. بخاصة إذا كان هذا النقد نهجاً ينتهجه الصحافي ووجهة نظر يتبناها، ويستمر في الكتابة عنها. ولكن الصحافي المعروف جدعون ليفي الذي يكتب عموداً أسبوعياً في صحيفة «هآرتس» منذ ثمانينات القرن الماضي تميز بالجرأة، وخرج عن هذا المألوف. وقد تحمّل ردود فعل سلبية واتهامات مؤذية، بعد أن استمر في نقد حكومته على احتلالها الأراضي الفلسطينية، وسياستها نحو الفلسطينيين وعلى ما يصيبهم من أذى من جانب الجيش والمستوطنين، وهو يقوم بذلك منذ سنين. ولم يضره اتهام وزير سابق له بأنه خطر على الأمن أو أنه عدو إسرائيل، إذ نشر كتابين تضمنا آراءه في هذا الخصوص أحدهما عام 2004 والآخر هذه السنة بعنوان «معاقبة غزة». وهو يرى أن ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، خطأ كبير عواقبه وخيمة وثمنه باهظ، ونتائجه كارثية. وقد جاء المؤلف إلى أوروبا بعد صدور كتابه المذكور بالطبعتين الفرنسية والإنكليزية للترويج له والحديث عنه وإعطاء المقابلات حوله. وهو يذكر في كتابه هذا كيف تغيرت نظرته نحو سياسة إسرائيل في الأراضي المحتلة، والتي كانت قد بدأت عندما عمل في الضفة الغربية مراسلاً لصحيفة «هآرتس»، حيث كان شاباً مغسول الدماغ كما يقول. وقد اعتقد وقتها أن قطع أشجار الزيتون والاعتداء على الرجال ومعاملة النساء المهينة عند نقاط التفتيش حالات استثنائية، ولكن تبين له بعد فترة، أن ذلك هو القاعدة وليس الاستثناء. ومذّاك أخذ يهتم بالشأن الفلسطيني ويتابعه، ويكتب عنه. وعلى رغم أن الكتاب يتحدث عن حرب إسرائيل على غزة، التي قال عنها إنها فشلت فشلاً ذريعاً ولم تحقق أي هدف من أهدافها، وأنها جريمة حرب، وجعله حصارها يخجل من كونه إسرائيلياً، إلا أنه يذكر قضايا كثيرة تتعلق بموقفه من بعض شرائح المجتمع الإسرائيلي نحو الصراع، من مثقفين وعسكريين وأكاديميين وغيرهم. وهو ينتقد الأكاديميين على صمتهم حيال الاحتلال والمثقفين على تأييدهم سياسة الحكومة – وفي الكتاب رسالة موجهة إلى الروائي المعروف أ.ب. يهوشع على موقفه من حرب غزة - والقضاة على القرارات غير الإنسانية التي يصدرونها بحق الفلسطينيين. كما يسخر من مقولة أن الجيش الإسرائيلي هو أكثر الجيوش في العالم تمسكاً بالقيم، بينما يقول هو إنه يُعلِّم جنوده أن حياة الفلسطينيين وأملاكهم ليست لها أية قيمة، وحيث يعترف جنوده بقتلهم الأبرياء للتسلي والمتعة. وهو يرى أن الحرب على غزة زادت من كره الفلسطينيين لإسرائيل، وجعلتها أكثر عزلة في العالم. وهو يعتبر المستوطنين خطراً على الدولة، والمستوطنات على الأراضي الفلسطينية من أكبر المشاريع الإجرامية في تاريخ إسرائيل. ويعتبر سياسة أوروبا الحالية تابعة للولايات المتحدة بل لا تختلف عنها: فهي تؤيد سياسة إسرائيل مهما كانت، وهي بهذا، كما يقول «لا تتجاهل فقط القيم التي تدّعيها بل إنها ستخسر فرصة التأثير في المنطقة، وهو شيء ليس جيداً للشرق الأوسط». وبرأيه أن المقاطعة التي تقوم بها بعض اتحادات العمال في العالم، وبعض المؤسسات الأكاديمية والثقافية مشروعة وعادلة. وهو وإن كان هو نفسه لا يشجع عليها، لكنه يقول إن المقاطعين يجب أن يُشكروا على مقاطعتهم، ولو أن الإسرائيليين قاطعوا حكومتهم، لما كانت هناك حاجة الى المقاطعة الدولية. لكن الإسرائيليين مصابون ب «العمى الأخلاقي» كما يقول. وهو يرى أن إسرائيل يجب أن تدفع ثمن احتلالها، وبغير ذلك سوف لن تكون له نهاية، ولا يكون هناك تغير في المجتمع الإسرائيلي، ومن دون ضغوط لا شيء يتحرك في الشرق الأوسط. وهو يأسف لعدم وجود معارضة في إسرائيل تتعدى بعض المنظمات المتواضعة. فإسرائيل، عنده، تتحمل المسؤولية الأكبر للاحتلال والأوضاع البائسة فيها وما ترتكبه من أعمال يجعلها لا تختلف عن أية منظمة إرهابية. كما لا يرى ليفي حلاً عسكرياً مع حماس مهما صرح السياسيون وأن الحل هو في إجراء محادثات معها. وهو من دعاة الانسحاب من جانب واحد من دون مطالبة الفلسطينيين بأية تنازلات «لأنه لا يُطلب من إسرائيل أن تعطي شيئاً بل مطلوب منها أن ترجع أراضي مسروقة». وهو يقول إنني دائماً احاول ان اذكّر أبناء جلدتي بأن هناك احتلالاً وأن الفلسطينيين بشر مثلنا. أما عن مستقبل الصراع، فقد قال في مقابلة صحافية إنه متشائم جداً حول مستقبل إسرائيل، وهو قلق كذلك من أن ينهار اليسار فلا ترثه إلا أحزاب من صوت واحد. ومما يزيد من قلقه أن الناس في إسرائيل لا يهتمون بما يدور حولهم، مع أن هناك قنبلة موقوته معلقة فوق رؤوسهم. إنه صوت يجدر الاستماع إليه. * أكاديمي عراقي