أصعب ما يمكن أن يبلغه المرء في وطنه هو أن يصبح مواطناً برتبة «متفرّج» أي مواطناً لا يسعه إلاّ أن يكون مشاهداً، مجرّد مشاهد لما يحصل أو يجري من دون أن يكون له حقّ في ابداء رأي، اعتراضاً أو تأييداً. يشعر هذا «المتفرّج» الذي لن يكون لرأيه أصلاً أثر ولا صدى ولو ضئيل، أنّ الحياة التي تجري أمامه بضوضائها و «جعجعتها» أشبه ب «فيلم» لا يعرف من أخرجه ولا مَن يؤدي فيه دور «البطل»، ما دامت الأدوار تتقلّب بحسب «العقدة» التي شاء صانعها أن تبقى بلا حلّ. هذا الشعور الذي يخامر «حفنة» كبيرة من المواطنين - وأنا واحد منهم حتماً - يجعل هؤلاء يظنون أنهم يعيشون على الحافة، لكنهم لا يعلمون ما تُراها تكون هذه الحافة ولا ما تخفي تحتها، بل هم لا يعلمون كيف وصلوا اليها ولا متى. انهم مواطنو الحافة في بلد بات هو نفسه يشبه الحافة وربما الشفير الذي يطل على هاوية المجهول. ولأنّ هؤلاء المواطنين هم متفرّجون، مجرّد متفرّجين، فهم يعجزون عن النزول عن تلك الحافة التي وجدوا أنفسهم عليها في هذا الوطن أو البلد الذي ينتمون اليه. لعلّ أجمل ما يمكن أن يوصف به لبنان هو أنه وطن «الشفير»، كل الأوصاف التي أطلقت عليه سابقاً أصبحت مكشوفة وخادعة، لا سيما تلك التي أطلقها الشعراء والفنانون والمفكرون المثاليون وسواهم... لقد سقطت كل تلك الأوصاف التي تغنت ب «لبنان» وطناً لم يوجد أصلاً إلا في المخيّلة، وفي التاريخ البعيد الذي وقع في شباك الأسطورة. ما أقسى مثل هذا الاعتراف. اعتراف قاسٍ جداً، لا يمكن أن يباح به إلا بصراحة، قاسٍ وقاتم ومدعاة الى اليأس والى ما هو أكثر من اليأس. لقد سقطت «فكرة» لبنان أمام حقيقته التاريخية وواقعه المأسويّ. فكرة جميلة جداً بل باهرة، لأنها استثناء ولأنّها فريدة تمام الفرادة. ما أجمل حقاً أن يكون هناك - أين؟ - وطن اسمه لبنان، وطن يضمّ نحو خمس عشرة طائفة، وطن يمكن الأقلية فيه أن تحيا في جوار «الأكثريات» من دون حرج أو اضطهاد، وطن يلتقي فيه رمزا البحر والصحراء، الغرب البعيد والشرق القريب، وطن الأرز والنجوم والعسل واللبن والبخور... وطن الأساطير والحكايات... إنها «فكرة» لبنان التي لم يكتب لها أن تكون حقيقية من شدّة جمالها. الفكرة التي طالما راودت شعراءه ومفكريه المثاليين، المغرقين في مثاليتهم حتى الغيبوبة. لا أحد يعلم كيف يمكن وطناً في هذه «العظمة» (المتوهمة طبعاً) أن يبلغ هذا الدرك من التفتت والتشرذم والبغضاء... هذا الدرك من الانحطاط والسقوط والتهاوي... تبقى «فكرة» لبنان، أما لبنان فلا. لكنّ هذه «الفكرة» لم تعد تقنع أحداً، حتى أولئك الذين تغنوا بها. إننا «متفرجون» بسطاء، مهمشون ومعزولون، لا نملك إلا أن نشاهد من موقعنا العالي ذاك، موقع «الحافة»، ما يحصل ويحدث، صامتين لا نلفظ كلمة، وان لفظنا في أحيان فكلمتنا ليست سوى «بنت شفة» كما تقول العبارة العربية، كلمة تسقط بلا ضوضاء ولا صدى، في دواخلنا نفسها وليس خارجها. لقد «تفرّجنا» كثيراً مثل أجدادنا وآبائنا وسنظل «نتفرج» مثل أبنائنا، نحن، هذه «الحفنة» من البشر الذين فقدوا معنى المواطنة ومعنى أن ينتسبوا الى تاريخ وواقع هما ضربان من الوهم مختلطاً بالألم والفجيعة. «تفرّجنا» كثيراً و «سنتفرّج» أكثر، بكينا حيناً وسنبكي، وضحكنا حيناً وسنضحك. بالأمس، البعيد والقريب «تفرّجنا» على أنفسنا، نتقاتل ونتذابح، بالأمس تفرّجنا أيضاً على اسرائيل تقصف وتنهب، واليوم نتفرّج على أنفسنا نتباغض ونتكاره ويضمر بعضنا الموت لبعضنا الآخر، واليوم أيضاً نتفرّج على الأبطال الوهميين، أبطال الداخل والخارج، يتخايلون على هذه الأرض التي كتب لها قدر مأسويّ... «نتفرّج» عليهم حيثما كانوا، لكننا لا نصفق - نحن هذه الحفنة من المواطنين -، «نتفرّج» على كل ما نراه من حولنا، قانعين رغماً عنا، ضاحكين وساخرين. بلد - وليس وطناً - جميل حقاً، الحياة فيه «مسلسل» لا نعلم إن كان كوميدياً أم مأسوياً. نعلم فقط أننا نضحك في أحيان حتى القهقهة ونبكي في أحيان حتى ذرف الدموع دماً. كل نهار يحمل معه مفاجأته وكل ليل يطوي هذه المفاجأة. لكنّ هذه المفاجآت المستمرة لم تمنعنا يوماً من الشعور بأننا نعيش على «الحافة»، قلقين ومضطربين وخائفين... على «الحافة» نعيش، ولكن يوماً بيوم، حياة متقطعة، حياة ب «التدريج»... أتذكر دوماً صرخة محمد الماغوط الشهيرة «سأخون وطني». أتذكر الكثير من هذه الصرخات التي دوّت في ذاكرتنا وقلوبنا والتي أضحت اليوم مجرّد أصداء جميلة، مشبعة بحماسة التمرّد والرفض. اليوم بات الوطن نفسه يصرخ: سأخونكم أيها المواطنون! خنتكم وسأظل أخونكم. ما أصعب أن يصبح المواطن في بلد مثل لبنان مواطناً برتبة «متفرّج» وأن يصبح الوطن نفسه بلداً على «الحافة»... إنه لبنان، لبنان «الفكرة» الجميلة، لبنان «الواقع» المأسوي والبشع.