بعد أن أُغلِقت في وجهها أبواب السعادة، وشعرت أنّها تائهة في قلب العالم الصاخب، قرّرت الكاتبة الأميركيّة إليزابيث جيلبرت المولودة عام 1969 تغيير مسار حياتها الرتيبة المملّة، وتغيير الإيقاع الثابت الذي كان كبّلها، ولا سيّما بعد مرورها بتجارب حبّ فاشلة، منها طلاقها من زوجها، وانفصالها عن صديقها، ومع عشقها للأسفار، ورغبتها المِلحاح في الخروج من القالب الذي نمّطها، بحيث خلخل توازنها، انقلبت على نفسها، وتخلّت عن كلّ شيء لتبحث عن توازنها الداخليّ. تستهلّ إليزابيث جيلبرت روايتها «طعام، صلاة، حبّ»، (الدار العربيّة للعلوم ناشرون - مؤسّسة محمّد بن راشد، ترجمة زينة إدريس)، بمقدّمة تشرح فيها كيفيّة عمل الرواية، بناء على تحليل الأعداد، تسرد فلسفتها للعنونة والترقيم. تلخّص فكرة الترابط الشديد، حيث ترى أنّ البحث الروحي محاولة للتهذيب المنهجيّ، ذلك أنّ البحث عن الحقيقة ليس متاحاً للجميع، وكباحثة عن الحقيقة وكاتبة على حدّ سواء، وجدت أنّ من المفيد الاعتماد على حبّات المسبحة لكي تركّز على ما تحاول تحقيقه. حيث تنسج روايتها على منوال المسبحة، تلك التي كان الهنود يضعونها في أعناقهم، تكتب 108 حكايات تقابل حبّات المسبحة، كلّ واحدة منها منفصلة عن الأخرى، مكمّلة لها في السلسلة في الوقت نفسه، تبرّر ذلك بأنّ الرقم 108 يعتبر بين الأوساط الأكثر سرّيّة للفلاسفة الشرقيّين رقم السَّعد، فهو مؤلّف من ثلاثة أرقام ويشكّل مضاعفاً كاملاً للرقم ثلاثة، وإن جمعت أرقامه تحصل على تسعة، وبما أنّ هذا الكتاب يتحدّث عن مسعاها لإيجاد التوازن، قرّرت تقسيمه على غرار مسبحة الهنود «الجابا مالا»، قسّمت روايتها إلى 108 حكايات، أو حبّات. تجمعها الحبّة 109 - الرواية. وهذا العقد – الرواية، مقسّم بدوره إلى ثلاثة أقسام عن إيطاليا والهند وإندونيسيا، وهي البلدان الثلاثة التي زارتها خلال ذلك العام من بحثها عن ذاتها. يعني ذلك أنّ كلّ قسم يضمّ 36 حكاية، ما يحمل دلالة شخصيّة بالنسبة إليها، لأنّها كانت بلغت السادسة والثلاثين من عمرها وهي تكتب عملها. كما أنّها ظلّت وفيّة للتقسيم الثلاثيّ منذ العنوان وحتى النهاية، فكلّ كلمة في العنوان تشير إلى دولة بعينها، «طعام» تشير إلى إيطاليا التي استمتعت فيها ليز - هكذا تسمّي نفسها في الرواية - بأشهى أنواع الأطعمة وألذها، من دون أن تحتسب زيادة الوزن المفرطة التي تعرّضت لها، لأنّها كانت مصمّمة على الارتواء والإشباع من كلّ شيء تصادفه في طريقها من أطعمة، حتّى أنّها كانت تضطرّ إلى تبديل ملابسها وشراء قياسات أكبر كلّ بضعة أسابيع. ثمّ تشير كلمة «صلاة» إلى الهند التي لاذت بها لتصلّي وتتأمّل، لتمارس اليوغا على طريقة الهنود، وتشعر بذاتها الداخليّة بعيداً من هموم العالم وويلاته، استمتعت بصلاتها وابتهالها وتأمّلها، اكتشفت في نفسها طاقات خفيّة لم تكن لتخطر لها، عاشت في معتزل مع شرائح مختلفة من البشر، كانوا يسعون إلى الصلاة والتأمّل واكتشاف الذات. تنير الهداية روحها وترافق المتأمّلين وتستمع إلى حكاياتهم. في حين تشير كلمة «حبّ» إلى إندونيسيا التي التقت فيها حبيبها البرازيليّ بالمصادفة، وعاشت أيّاماً من الحبّ والسعادة. لم تكتف الكاتبة بالحديث عن هواجسها وتوجّساتها فقط، بل حاولت أن تقدّم وصفاًً للدول والمناطق التي زارتها، أثناء سياحتها الاستكشافيّة التي بحثت فيها عن كلّ شيء، وعثرت عليه، تقدّم معلومات عن عدد من الأماكن الأثريّة التي تجوّلت فيها، كما تبدو كأنّها في صدد إجراء دراسات ديموغرافيّة وسوسيولوجيّة على المدن وسكّانها وزائريها، متجاوزة ذاتها وهمومها إلى هموم وقضايا عامّة، كأحوال العالم بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، التي أثّرت في شكل مفصليّ في سياسة الولايات المتّحدة حيث قامت بسنّ قوانين جديدة للهجرة والإقامة، كالشابّ البالينيّ الذي طردته بعد سجن وتعذيب، والذي يعدّ عيّنة بسيطة دالّة على الغبن الذي مورس في حقّ أبرياء، وألحق بهم أضراراً يستحيل ترميمها. كما أنّها تتطرّق بإشارات وإلماحات إلى أحوال وظروف الكثير من الدول في مشارق الأرض ومغاربها، عبر الشخصيّات المستعرضة «ريتشارد، ديفيد، العرّاف، المرشدة، فيليبه، جوفاني، سباغيتي، كاثرين، إيفا، وايان...»، نراها مثلاً تلمّح إلى تأثيرات الحرب الأهليّة الكارثيّة في اللبنانيّين وتستغرب طبيعة صديقتها اللبنانيّة التي تحتفظ بقوّتها وتماسكها وإرادتها الصلبة بعد ما عانته من قسوة ووحشيّة، وما شهدته من مرارات وحروب. وعلى رغم ذلك نراها تنصحها بعدم فقدان الرجاء والأمل وتبشّرها بالتفاؤل بما هو قادم. وبإجراء مقارنة بسيطة بينهما، تعترف جيلبرت بصلابة صديقتها إيفا التي نشأت في بيروت وكانت مكوّرة في ملجأ لخمس ليالٍ في الأسبوع هرباً من الموت، بينما هي تمارس الرياضة وتتعلّم عزف الموسيقى في مدرسة متوسّطة في كونكتيكت. تستغرب كيف أنتج هذا التعرّض المبكّر للعنف شخصاً بهذا الثبات الآن، إذ إنّها تقول إنّ إيفا كانت من أكثر الأشخاص الذين عرفتهم في حياتها رزانة وقدرة على التواصل مع الآخرين. تتداوى الشخصيّة بالكتابة، تواجه بها العالم، تتغلّب بها على الوحدة والوحشة والاكتئاب، تتّخذ من نفسها الكاتبة مستشاراً لها، تكتب آراءها في منعطفات أو منزلقات حياتها، تقرأ مآسيها مكتوبة على الورق أمامها، فتتمّكن من تشخيص العلل، وبالتالي المعاندة للتغلّب عليها. تطرح موضوعاتها بطريقة ذكيّة عفويّة من دون تكلّف أو مداورة. لا يخفى ما تنطوي عليه الرواية من الاحتفاء المبالغ فيه بالخرافة وبهجتها وتأثيراتها في نفوس مختلف الشعوب، وولع الكاتبة الجليّ بها، حيث تستوطن الخرافة في شكل لافت خلفيّة الرواية، وتوجّه المصائر. هذا على رغم ممّا تودّ جيلبرت تعميمه من نموذج المواطن العالميّ الذي لا يجوز أن يحشر نفسه في علبة هويّة مُقَولبة ضيّقة، حين يمكنه عوضاً عن ذلك أن يشعر بلا نهايته في الكون، وبهويّته المنفتحة على الهويّات المتآلفة، لا المنكفئة على ذاتها في بحر الهويّات المتناحرة. كأنّ الإيمان بالخرافة يكون رابطاً بين كثيرين، أو ربّما «هويّة» جديدة. كما أرادت جيلبرت في روايتها تقديم نماذج من المشرق والمغرب، كأنّها تبحث عن مصالحة واجبة بين الأديان والحضارات، بدلاً من العنف والعنف المضادّ، تتّخذ من نفسها، وحياتها الصاخبة المجنونة، مثالاً بسيطاً على وجوب البحث عن التوازن وتسييده، لا المساهمة في اختلاله وتضييعه، ولا سيّما بعد الكثير من الأحداث العاصفة التي تكاد تودي بالعالم إلى الحروب والمجاعات والتهلكة، سواء كانت الكوارث طبيعيّة من تسونامي أو زلازل أو براكين، أو مفتعلة كالحروب وغيرها من الجرائم التي يتسبّب فيها الإنسان في سبيل إرواء جشعه وجنونه. الرواية تحوّلت إلى فيلم سينمائيّ بطلته جوليا روبرتس التي تقول عن الكتاب إنّه هديّتها المفضّلة إلى صديقاتها.