لا يكاد «أبو مرزوق» يصدق عينيه! وهو يشاهد على جادة الشانزليزيه وسط العاصمة الفرنسية باريس جاره في الحي «أبو فرحان»؛ فالهندام الذي يرتديه ومظاهر الثراء التي ارتسمت على محياه غيَّرت كثيراً من ملامحه حتى أنه كاد لا يعرفه ولم يسبق ان رآه بهذه الهيئة الباذخة، وتساءل من أين له كل هذا؟ وهو الذي يسكن في شقة بالإيجار وسيارته بالأقساط ودخله الوحيد هو راتبه من وظيفته الحكومية. لكن الاستغراب ذاته وقع في نفس أبي فرحان، فهو أيضاً لم يتعرف على أبي مرزوق إلا بصعوبة، وكلاهما اندهش من وجود الآخر في أشهر شوارع أوروبا وأغلاها على الإطلاق. في الصيف، يشرق الشارع الشهير بالعرب؛ وتحديداً الخليجيين، حتى يخيّل للمرء انه في أحد البلدان العربية، إلا أن حضورهم اللافت غير متوافق مع التركيبة البشرية التي يُعرف بها العرب سواء في السُحنة العامة أو العادات والتقاليد الاجتماعية التي تختلف بالطبع من منطقة عربية إلى أخرى. ولم تختلف دهشة اللقاء بين الجارين «أبو فرحان» و«أبومرزوق» عن تلك التي أصابت أم سلمان حين وقع بصرها مصادفة - في الشارع ذاته - على مدرّستها في الجامعة وبيديها أكياس ممتلئة اثقلت ذراعيها، فالأقدار التي لم تجمعهما في الوطن، بعد انتهاء الأولى من دراستها، الصدفة نفسها من جمعتهما من دون تخطيط مسبق في فرنسا، وهن يرتدن اماكن التسوق والترفيه ذاتها، التي تشتهر بها العاصمة الفرنسية، ليتمحور النقاش بينهما وهما يشربان القهوة في أحد المقاهي معاً عن محال العطور الباريسية ومستلزمات المرأة و«ديزني لاند» وركوب القوارب في نهر السين، وارتياد دور السينما وصعود برج ايفل... وغيرها. وتبقى عين المتجول في هذا الشارع، الذي يزيد من التحريض على التوقف والجلوس فيه اعتدال الأجواء وسقوط حبات المطر بين حين وآخر، تصطاد المواقف والأشكال الجذابة التي تبدو في غالبها مصطنعة وغير مألوفة لدى السكان الأصليين، فلا الاستعراض بأفخم السيارات وأغلاها والظهور بأفخر الألبسة والطريقة في سهر الليالي وتناول القهوة والمأكولات الفرنسية في المطاعم الشهيرة على ضفاف الشارع والتي يتم حجزها مسبقاً والاصطفاف الغريب لدى محال بيع التبغ وانتظار وصول الأرجيلة. أجبر شارع الشانزيلزيه على التكلم بالعربية في الصيف، تجاوباً مع مرتاديه من قوس النصر حتى ساحة الكونكورد، وهو الذي يحتضن أرقى المحال. ولا يعبأ مرتادو الشارع بالأسعار الخيالية لتلك المقاهي والمطاعم المتراصة على جانبيه، أومحال الماركات العالمية الفاخرة، ليعود كثيرون منهم «مفلسين» إلى الوطن بعد انتهاء فسحة الصيف المنتظرة، مستقبلين عاماً جديداً بجيوب خاوية.