قبل فترة قصيرة، تحوّل الفن الحديث والمعاصر في العالم العربي وإيران إلى موضوع اهتمام هواة الفن والمشرفين على المؤسسات الفنية والنّقاد والمؤرّخين في الغرب لملاحظتهم غنى هذا الفن منذ قرنٍ من الزمن، وخصوصاً في السنوات الأخيرة. وعلى رغم صدور دراسات قيّمة تتناول جوانب مختلفة من هذا الموضوع الشاسع والمعقّد، لم يتجرّأ أحد على وضع بانوراما شاملة نتعرّف فيها على مختلف الوجوه والمجموعات والأساليب والميول الفنية الفاعلة في المنطقة. وهذا بالتأكيد ما دفع الباحث وهاوي الفن النمسوي - اللبناني صائب أينر إلى سد هذه الفجوة بكتابه الضخم والمهم الذي صدر حديثاً لدى دار Toucan الباريسية بعنوان «فن الشرق الأوسط». في مقدّمته الطويلة لهذا العمل الفريد، يقرّ آينر بأن كتاباً من هذا النوع لا يمكنه أن يستنفد موضوعه في شكلٍ مطلق. لكن بتقديمه أكثر من مئتي فنان، يمنحنا أوسع خلاصة ممكنة حوله. طبعاً، وسع المنطقة وتنوّعها يطرحان سؤالاً يتعذّر تجنّبه: ما هي الحدود الجغرافية التي تشملها هذه الدراسة؟ والجواب هو الشرق الأوسط برمّته، كما يشير إلى ذلك العنوان، ولكن أيضاً الدول العربية في شمال إفريقيا، وإيران. ونظراً إلى أهمية فن التخطيط والتقليد الأدبي في العالم العربي، يتناول آينر في الفصلين الأول والثاني، الفنانين المعاصرين الذين استوحوا أعمالهم من النصوص المقدّسة أو الأدبية، مبيّناً أن احترامهم للكلمة لم يكبح حسّهم الإبداعي وبالتالي تنوّعهم. ولأن الأشكال الطبيعية والبشرية حاضرة منذ قرون في فن الدول الإسلامية، نتعرّف في الفصلين «الطبيعة والأرض» و «التاريخ والهوية» الى الفنانين المعاصرين الذين شكّلت المنمنمات الفارسية مصدر وحيٍ لهم إلى جانب مصادر أخرى، أبرزها إرث الحضارات الشرقية القديمة. وبما أن ثمّة الكثير من الفنانين العرب والإيرانيين المعاصرين الذين لم يرو الماضي عطشهم فدرسوا وتأثّروا بالفن الغربي، يخصّص آينر لهم فصلاً بعنوان «البورتريه والجسد»، كما نجدهم موزّعين في سائر الفصول أيضاً. أما الفصل الأطول في هذا الكتاب فخُصِّص للفن الذي انبثق خلال (أو نتيجة) الحروب والصراعات العسكرية الكثيرة التي شهدتها دول عدة في المنطقة وشكّل شهاداتٍ مثيرة ومختلفة عليها. وفي مقدّمته للكتاب، يلفت آينر إلى صعوبة تحديد أصول الفن الحديث في العالم العربي مقارنةً بما حصل في الغرب، كانتشار الطلائع الفنية منذ بداية القرن العشرين، ثم بروز نيويورك كعاصمة فنية بعد الحرب العالمية الثانية. لكنه يشير إلى عاملٍ مهم هو هيمنة الاستعمار الغربي على الشرق التي بدأت في بداية القرن التاسع عشر وتطوّرت مع انهيار السلطنة العثمانية عند نهاية الحرب العالمية الثانية. فمنذ القرن التاسع عشر، بدأت تلك المقابلة بين فناني المنطقة والفنانين الغربيين المستشرقين الذين استقرّوا في الشرق الأوسط أو إفريقيا الشمالية. وفي القرن العشرين، درس بعض الفنانين العرب في أوروبا وعادوا إلى ديارهم بمفاهيم للحداثة وأساليب فنية استطاعوا من خلالها التعبير عن شعورهم القومي الخاص أو هويتهم الفريدة. والمثال الأبرز على هذه الظاهرة، في نظر آينر، هو الفنان محمود مختار الذي تابع دراسته في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس قبل أن يعود إلى مصر ويبدع منحوتات ذات جانب قومي دنيوي تركت أثراً بالغاً في التطوّر الذي شهدته مصر في ما بعد، أو محمد ناجي الذي حقق جدرانيات يظهر فيها ماضي بلده، لكن بأسلوبٍ غير مصري مصدره فن جدرانيات رافايلّي، كما يظهر في أعمالٍ أخرى له أثر التوحّشية والانطباعية، أو جورج صبّاغ الذي حقق مواضيع وطنية بأسلوبٍ تصويري غربي، أو حركة «فن وحرّية» التي أسّسها جورج حنين وأدخلت مفاهيم السرّيالية إلى العالم العربي وضمّت فنانين مثل رمسيس يونان الذي استخدم أسلوباً تجريدياً يقترب ببعض مميزاته من الفن الإسلامي. ولا يهمل آينر «مجموعة الفن المعاصر» التي تأسست في مصر عام 1946 واستخدم بعض فنانيها، مثل عبد الهادي الجزّار وحامد ندى، أسلوباً فولكلورياً وتأثّروا بالموجة الوطنية التي تلت ثورة 1952. أو «مجموعة الفن الحديث» التي تأسست عام 1947 وركّز أربابها، مثل حامد عويس، على رسم المزارعين من منطلق اشتراكي ثوري لا علاقة له بالتقاليد الفنية المصرية، أو صلاح طاهر الذي عاد من الولاياتالمتحدة في نهاية الخمسينات بأسلوبٍ تجريدي، أو صلاح عبدالكريم الذي حقق بواسطة قطع معدنية منحوتات تعبيرية تتداخل فيها الأشكال الحيوانية والبشرية والميكانيكية، أو أحمد ماهر رائف الذي عالج مواضيع اجتماعية آنية قبل أن يطوّر في نهاية مساره أسلوباً جديداً. ومن سورية، ودمشق تحديداً التي شكّلت، بعد الحرب العالمية الثانية، مهداً للكثير من الفنانين الحديثين المهمين، نتعرّف مثلاً الى فاتح المدرّس الذي خلط تقنية تصويرية غربية مع صورية سورية نموذجية، ولؤيّ كيّالي الذي رسم الوجه البشري بواقعيةٍ متقشّفة ورصينة تعكس المعطيات السياسية والاجتماعية لزمنه. ومن العراق الذي شهدت ساحته الفنية بعد مرحلة الاستعمار حيويةً كبيرة، يتوقف آينر عند المجموعات الطليعية الكثيرة التي ظهرت في الخمسينات وأبرزها «مجموعة الفن الحديث» في بغداد التي أسّسها عام 1951 جواد سليم الذي تأثّر أسلوبه بفن بلاد ما بين النهرين، أو مجموعة «الروّاد» التي قادها فائق حسن ودعا إلى الرسم وفقاً للطبيعة فحقق لوحات تظهر فيها وجوهٌ مجرّدة لقرويين أو بدو، أو «مجموعة الانطباعيين» التي أسسها حافظ الدروبي متأثراً بأساليب ما بعد الانطباعية والتكعيبية والمستقبلية. أما الميل التجريدي فمثّله بقوة شاكر حسن السعيد الذي تأثّر به ضياء العزّاوي في ما بعد وطوّر أسلوباً فريداً تتراوح مصادره بين المنحوتة السومرية وبيكاسو. ولأن بيروت شكلت بدورها مهداً مهماً للفن العربي الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر ومركز الثقافة العربية منذ الستينات حتى بداية الثمانينات، يرجع آينر إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى التي عرفت فيها هذه المدينة فنانين مهمين مثل خليل الصليبي وحبيب سرور وداوود قرم الذين رسموا بأسلوبٍ انطباعي، قبل أن يتوقف عند مصطفى فرّوخ وقيصر الجميّل اللذين مارسا أسلوب ما بعد الانطباعية في شكلٍ جريء، فعمر أنسي الذي تبنّى مقاربة طبيعية حيّة في مشاهده، وصليبا الدويهي الذي ترك لنا لوحات يظهر فيها أثر مارك روتكو والفن الصيني والياباني. وهناك شفيق عبود الذي حقق لوحات تجريدية شهوانية وشعرية بلغ بها تناغمات لونية رائعة، وبول غيراغوسيان الذي استقى من أصوله الأرمنية مادة فنّه التصويري الفريد. ومع أن بيروت فقدت خلال الحرب موقعها كمركز فني مهم، لكن آينر يخصّص فسحةً لفنانيها المعاصرين الذين تقدّموا بأجوبةٍ مثيرة على أحداث هذه الحرب، مثل وليد رعد وأكرم زعتري. ومن إيران التي تشهد تطوّر طلائع فنية مهمة منذ ستة عقود على رغم الحالة السياسية والاجتماعية الصعبة، نتعرّف في الكتاب على معظم الفنانين الذين نشطوا منذ فترة الثلاثينات وحتى اليوم، مثل ماركوس غريغوريان وزهراب سيبيري اللذين استحضرا في شكلٍ حاذق ومرهف الطبيعة القاحلة للأرض الإيرانية، وشار حسين زندرودي وبارفيز تانافولي وصياح أرمجاني ومسعود عربشاهي وصادق تبريزي الذين استوحوا في شكلٍ واسع من الجوانب التقليدية للثقافة الإيرانية. وفي معظم أعمال هؤلاء نستشفّ خليطاً مدهشاً من الحداثة والتقليد يميّز الفن الإيراني المعاصر في شكلٍ عام.