يزداد استهلاك الدول الصناعية والنامية للمواد الأولية من نحاس وفضة ونفط وذهب وفلزات حديد، في شكل قياسي. وترتفع حمى هذا الاستهلاك في ضوء النمو السكاني العالمي والنهضة الصناعية التي تشهدها الصين والهند مع مستهلكين يتجاوزون 2.3 بليون نسمة. وفي حال استمرت وتيرة استغلال هذه المواد بالمستوى ذاته، تتوقع تقارير ألمانية نضوب مواد مهمة جداً مثل النحاس، في غضون ثلاثة عقود، والنفط الذي يشكل أساس الصناعات البلاستكية، في غضون ستة إلى سبعة عقود، ما يزيد أهمية المواد الأولية الموجودة في النفايات التي تتخلص منها البلدان العربية عشوائياً، أو تُحرق في شكل ضار بالصحة بدلاً من معالجتها وفرز مكوناتها من معادن ومواد بناء ومصادر طاقة، كما هي الحال في بلدان مثل ألمانيا. وتأكيداً على هذه الأهمية اعتبر جمع النفايات ومعالجتها في شكل أكثر فعالية وشمولية، أحد أسس إستراتيجية الاتحاد الأوروبي الخاصة بضمان المواد الأولية لدوله مستقبلاً. يؤكد «الاتحاد الألماني لجمع المواد الأولية الثانوية وفرزها»، أن حرق النفايات أو طمرها ينم عن قصر نظر ولا يخدم التنمية المستدامة، إذا أخذنا في الاعتبار أن الطلب على المواد الأولية سيبلغ ضعفي حجمه الحالي خلال العقود الثلاثة المقبلة. وفي هذا السياق يقول الخبير ميكائيل شنايدر، من مؤسسة «ريمونديس» الألمانية لتدوير المخلفات، في تصريح الى شبكة «دويتشه فيله» الإعلامية الألمانية، إن الأجهزة الإلكترونية مثلاً تضم مكونات لا تخطر على بال. فعلى سبيل المثال يوجد في كل جهاز هاتف جوال نحو 23 ميليغراماً ذهباً. وإذا أخذنا في الاعتبار أن 10 في المئة فقط من 1.3 بليون جهاز تنتج سنوياً في العالم تخضع لإعادة المعالجة، فذلك يعني رمي كمياتٍ من الذهب كل سنة في مكبات وأماكن حرق النفايات، بحسب شنايدر. تعد الدول العربية في مقدم الدول التي تشهد معدلات نمو سكاني مرتفعة، والمجتمعات العربية عموماً، لا سيما الفئات الوسطى والغنية فيها من أكثر الفئات استهلاكاً ورمياً للنفايات التي تُطمر أو تُُحرق أو تُرمى قرب المدن والتجمعات الريفية. وهو اجراء لا يتسبب فقط في تلويث المياه وإفقار الأراضي الزراعية وتقبيح الطبيعة، بل ينشر الأمراض التي تكلف الموازنات الخاصة والحكومية بلايين الدولارات سنوياً. في المقابل، فإن معالجة هذه النفايات بهدف الاستفادة من موادها لأغراض مختلفة لا يكلف سوى مبالغ متواضعة مقارنة بهذه البلايين. ومن الأمثلة على ذلك محطة تدوير ومعالجة النفايات المركزية في مدينة برلين الألمانية التي بلغت كلفتها أقل من 100 مليون يورو، بينما كانت كلفة الأضرار الناتجة من النفايات التي تعالجها قد تبلغ بليون يورو سنوياً بحسب مهندس الحسابات في مصلحة خدمات المدينة كيرد برومر. وتنتج هذه المحطة يومياً عشرات الأطنان من الجبس والخردة وحبيبات البلاستيك والزجاج والأسمدة العضوية التي تستخدم في البناء والصناعة والزراعة. وتتراوح قيمة مبيعاتها بين 10 و15 مليون يورو سنوياً. بدأت بلدان مثل دول الاتحاد الأوروبي منذ عقود، وضع الإطار القانوني والمالي للتخلص من النفايات ومعالجتها بمشاركة القطاع الخاص. ونتجت من ذلك أنظمة فرز ومعالجة متكاملة خلقت في ألمانيا لوحدها أكثر من 200 ألف فرصة عمل بحسب أستاذ تكنولوجيا الطاقة والبيئة بجامعة روستوك الألمانية، عبدالله نصور. أما في الدول العربية فلا يزال التعامل مع النفايات في شكل عام حكراً على القطاع العام الذي لم يتمكن حتى الآن من مواجهة المشاكل والأضرار الناجمة عن تراكمها. ومن هنا ومع تزايد الاستهلاك من جهة، والأهمية المتزايدة للمواد الأولية من جهة أخرى، فإن الدول العربية منفردة ومجتمعة مطالبة اليوم بالإسراع في وضع حد لفوضى النفايات عبر وضع الأطر القانونية والاستثمارية والمالية لتجميعها ومعالجتها بغية الاستفادة منها على الأصعدة الاقتصادية والبيئية وغيرها. وفي هذا الإطار لا بد من إشراك القطاع الخاص بصيغ مختلفة في بناء المنشآت اللازمة لذلك وتشغيلها وصيانتها، كما يحصل حالياً في إطار السماح له بإنشاء محطات توليد الكهرباء ومصافي النفط. فمن خلال ذلك يمكن إيجاد سوق منافسة تنعكس إيجاباً على مصالح الأطراف المعنية. وفي هذا الإطار يمكن الاستفادة من تجارب دول أوروبية مرت بتجارب قاسية قبل أن تتخلص من تبعات النفايات المنزلية والصناعية مثل ألمانيا. * خبير اقتصادي - برلين