داخل «قمرة» لا تتجاوز مساحتها أمتاراً قليلة، يقضون نصف حياتهم. وأمام أجهزة إلكترونية طائرة يتسمرون ساعات كثيرة بينما يعجزون عن مجالسة عائلاتهم أو قضاء حاجات فلذات أكبادهم الأرضية، بعد أن سلبتهم مهمات عملهم كل مظاهر الحياة الاجتماعية، أولئك هم الطيارون. فبين الأرض والسماء، يمضي عمر الطيار سريعاً، فما أن يطأ سطح الأرض حتى يعود سريعاً للتحليق من جديد بعد أن يأخذ قسطاً يسيراً من الراحة ويخصص نزراً لا يستهان به من وقته لتبضع الهدايا لأقاربه الذين أنسته إياهم ظروف عمله. ويرى الطيار خالد جاد أنه لكل وظيفة مميزاتها وعيوبها الخاصة، «إلا أن المشقة الذهنية والتفكير المتواصل يعتبران من أكثر الهواجس التي تؤرق الطيارين، الذين يسابق تفكيرهم طائراتهم في كثير من الأحيان». ومن داخل «قمرة القيادة في طيارته» قال ل«الحياة»: «أحاول تعويض أولادي الثلاثة وابنتاي عن طول فترة تغيبي عنهم، من طريق الهدايا التي من المحال أن أدخل بيتي من دون أن أحملها». ولا تقتصر المصاعب الاجتماعية التي تعصف بالعامل في مهنة الطيران عند هذا الحد، بل تتجاوزه لتلقي بظلالها على كافة أوجه حياته. «رفض ذوو زوجتي تزويجي منها في بادئ الأمر، وكذا كان موقفها أيضاً، إلا أن الأقدار شاءت أن أعاود الكرّة مرة أخرى فكسبت ودّها»، يقول جاد: «عانت زوجتي وأولادي كثيراً من ظروف عملي، خصوصاً أن أهلها يقطنون مدينة أخرى ما يعني أنها تتسمر ساعات طوال وحيدة بين جدران عش الزوجية الذي هجّرتني منه وظيفتي. وعلى رغم أنني صحبتها معي في رحلات عدة إلا أنها ما لبثت أن سئمت حال الترحال المتواصل بين المدن والدول لتفضل سكون المنزل الخالي على صخب التنقل المتواصل». ويزيد: «لا أتمكن من أداء متطلبات الحياة اليومية لأسرتي أو إنهاء المعاملات الحكومية المتعلقة بأفراد عائلتي، وأضطر إلى إيكال تلك المهمات لأشخاص آخرين. وليست لديّ أي صداقات خارج نطاق العمل إطلاقاً، لأنه من النادر جداً أن تجد من يتفهم حال الإرهاق والتعب التي تكتنف الطيار بعد مقدمه من أي رحلة. علماً أنني لم أحضر حفلة زواج شقيقي بسبب ارتباطي برحلة لم أفلح في التملص منها أو الاعتذار عنها». ولمّا كانت مهنة الطيران بمثابة «الضرة» لزوجة الطيار، يشدد جاد على أن غالبية الطيارين لا يفكرون إطلاقاً في مسألة الزواج مرة ثانية. إلا أنه يشدد على أنه لن يقبل تزويج أي من ابنتيه من طيّار يتقدّم لخطبة أي منهما، «عانت زوجتي كثيراً معي، وأعرف جيداً المصاعب التي تعصف بعائلة الطيار، لذا لن أدع ابنتي تعاني طوال عمرها مع أي من زملاء المهنة». ويلفت إلى أن أحد أبنائه ما فتئ يردد على مسمعه رغبته أن يصبح هو الآخر «طيّاراً». ويؤكد الطيّار جاد الذي يعمل حالياً مديراً للتدريب على سلامة الطيران أن لزملائه في المهنة ميزات عدة، «الراتب المجزي، والاستقبال المميز الذي يحظون به ما أن يصلوا إلى أي دولة، إضافة إلى التعرف على المدن الجديدة، والاطلاع على الحضارات الأخرى، والاحتكاك بالعالم». وبما أن أموراً عدة تجول داخل بادرة أفق الطيّار، تحرص شركات الطيران كافة على إخضاع طيّاريها إلى فحوصات طبية كل ستة أشهر. «نتعرض لضغوطات نفسية عدة، ما يستوجب مشاركتنا في دورات إضافية لتنمية قدراتنا على التركيز والتماشي مع الضغوط». وعن آلية تكليفهم بالرحلات، يكشف جاد صدور جداول معينة يختارها الطيارون بحسب الأقدمية في كل شهر تنبئهم عن جدول رحلاتهم في الشهر المقبل. «تتراوح غالبية ساعات الطيران الممنوحة للطيار بين 60 وَ 70 ساعة بمعدل طيران 15 يوماً في كل شهر. وبحسب القوانين الدولية تقسّم ساعات الراحة بناء على الوقت المحدد لكل رحلة وفقاً للقاعدة الدولية (عدد ساعات الرحلة X 2 + 2 = ساعات الراحة)، فمثلاً في حال كُلّف طيار ما برحلة دولية إلى أميركا تبلغ مدتها تسع ساعات يجب أن يرتاح مدة لا تقل عن 20 ساعة إذا ما ضربنا 9 في 2 وأضفنا إليها ساعتين، ولكنّ الطيارين المكلفين برحلات داخلية لا تستغرق مدة وصولها ساعات طويلة قد يطيرون في كل يوم مرة». وفي الوقت الذي يلملم فيه جاد حاجاته من «قمرة القيادة» في طائرة «البوينج»، يشدد على إدمانه الطيران، على رغم سلبياته العدة، «لا أتصور نفسي يوماً في مهنة أخرى، على رغم أنني لم أحلم في صغري بأن أصبح طياراً، إذ إن ظروفاً عدة لعبت دوراً محورياً في التحاقي بسلك الطيران، إلا أنه في اليوم الذي لا أطير فيه بحكم التزاماتي العملية الأخرى كمدير للتدريب على سلامة الطيران أحس أن أموراً عدة تنقصني». ويتفق معه مساعد الطيار علاء عديل، (متزوج وله طفلة) إذ قال ل«الحياة» (في عجالة): «سلبيات مهنتنا كثيرة، ولعل أكثرها ضرراً هي تقصيرنا في واجباتنا الأسرية وافتقادنا الحياة الاجتماعية، ولك أن تتخيلي أني أترك أهلي في الأعياد ولا أحضر حتى المناسبات العائلية معهم، وليس لدي أي صديق خارج إطار العمل».