يُجمع الناس على أن هناك ضرورة للإصلاحين السياسي والديني: الإصلاح السياسي ضروري لترشيد أنماط الحكم في بلادنا، لتصبح الجماعة المرجع الرئيسي للسياسة، وليكون الشعب مشاركاً في تقرير مصيره ومصير بلده، والإصلاح الديني للاستجابة للأسئلة الكبرى التي طرحها العصر على الضمير الديني وعلى رؤية الإنسان للكون والعالم بعد التبدلات المذهلة التي أدخلتها الاكتشافات الكونية (من الثورة الكوبرنيكية الى ثورة الاتصالات والأنترنت مروراً بثورة أينشتاين/ النسبية) على رؤية الإنسان للكون، التي تختلف جذرياً عن الرؤية البطليمية، ورؤية خريطة المأمون للكون، وأيضاً لمواكبة الأسئلة التي طرحتها ثورات العلوم الإنسانية المعاصرة المتعاقبة (علوم الاقتصاد والمجتمع والأنثربولوجيا وعلم النفس وثورة التحليل النفسي، الإبستمولوجيا) على الإنسان والمجتمع والإنسانية وعلى فهم الإنسان لنفسه ولعالمه الإنساني، لا سيما بعد أن غدا العالم برمته موحداً، توحده العلوم والمواصلات والاتصالات، وصورة التلفزيون، وتبادل السلعة والأزياء، والذوق العام، وأدب الكياسة الاجتماعية، والمنهجيات العلمية وأساليب النظر والفكر، واتساع دائرة القيم المشتركة. الإصلاحان ضروريان ومتداخلان على رغم استقلالية كل منهما عن الآخر. البعض أعطى الأولوية للإصلاح الديني، والبعض الآخر رجَّح أولوية الإصلاح السياسي، علماً أن السياسة وشؤون الحكم هما بالأساس شأنان دنيويان، لغتهما المصلحة الخاضعة لمتغيرات الزمان، وتبدلات ميزان القوى، بينما الشأن الديني يتعلق أساساً بالأبدي وبالقدسي وبما يرضي الله، وبالتالي فإن السياسي يتعلق بالزمني والوقتي بالراهن من الزمن وبمصالح العباد المتغيرة التي لا تحتمل التأجيل، بينما الديني يحتاج إلى قرارات تمس الضمير وتطلعات الفكر البعيدة المرمى، ولهذا فعلى قراراته ألاَّ تخضع لضغط اللحظة الراهنة وإلاَّ سقطت في ما يناقض غاياتها القصوى. يدَّعي الإسلاميون بطريقة يقينية ثابتة أن تصوراتهم عن الحكم في الإسلام وعن الخلافة والدولة الإسلامية و (حاكمية الله) هي من الأمور الثابتة في الإسلام، وهي لا تحتاج إلى كثير عناء، غير إن هذا الادعاء يناقض الممارسات الفعلية للتجربة السياسية الإسلامية، فما سُل سيف في الإسلام، منذ عهد الصحابة إلاَّ وكان وراءه – على الغالب - الخلاف على السياسي والحكم، وهو ما ينفي وضوح نظرية الحكم في الإسلام، ويؤكد في المقابل على جذورها في مصالح الجماعات وتصوراتها المتباينة، بل إن التجربة السياسية الإسلامية تذهب باتجاه التأكيد على العنصر التاريخي والمصلحي، وعلى الدور الحاسم لمؤسسة السلطة ورؤيتها لمصالحهما في المجال السياسي، هذه السلطة ورجالها الذين أبدوا حرصهم على أن تجلِّل الرموز الإسلامية فضاء دولتهم، وعلى رعاية دور العبادة من جهة، وأبقوا السلطة ومؤسساتها فوق الجماعة وفوق المؤسسة الدينية من جهة ثانية. ولعل التصورات الراهنة للإسلاميين عن الدولة في الإسلام هي وليدة الأزمنة الراهنة المأزومة، وأن قراءة هؤلاء الإسلاميين وغير الإسلاميين للنصوص وللتجربة السياسية الإسلامية، هي قراءة متأثرة بأهوائهم وبمصالحهم وثقافتهم، لا سيما عندما يريدون استخدامها في الصراع السياسي على السلطة. لذا فالإصلاح الديني غدا مطلوباً للغاية في المجال الإسلامي ليقوم، على غرار ما قامت به الكنيسة في الغرب بمواءمة الإيمان الديني مع مقتضيات الصورة الحديثة للكون الفلكي والعالم الإنساني بكل مندرجاته وقيمه الإنسانية المعاصرة، فتراجع في أوروبا الزمن الذي يصبح فيه أمثال جوردانو برونو مهدداً بالمحرقة، بينما ما زال التكفيريون عندنا يحولون أنفسهم إلى قنابل تحصد المئات في الشارع باسم الرحمن الرحيم(!) مع اعتقادهم الراسخ بأن جزاء أفعالهم المدمرة عند الله هو الجنة! من هنا فالإصلاح الديني مطلوب، غير إنه من المجحف أن نجعله شرطاً للإصلاح السياسي أو سابقاً له وفي خدمته، فلكل من الإصلاحين زمنه الخاص وأغراضه الخاصة المستقلة عن الآخر، من المناسب الاقتناع بأن مشكلات المسلمين ليست مشكلات دينية حتى تُحلَّ فقط بالإصلاح الديني الإسلامي، بل هي مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية، ويفترض إذا أردنا حلها أن تتعلق قرارات المصلح الديني بالأفكار الكبرى التي يمكن أن تُحدث تغييراً في رؤية المسلم نشخِّص أسبابها وآلياتها لكشف السبل للخروج من دائرتها. وإذا كان من طبيعة المجال السياسي علاقته مع المصلحي والدهري في تحولاتهما التي لا تتوقف، وهو ما يفرض عليه قرارات راهنة ومستعجلة لا تقبل التأخير والتسويف، وأن يراعي في قراراته مصالح الفئات المختلفة في تحولاتها، فإن قرارات الإصلاح الديني إنما تتعلق بالضمير الديني والأخلاقي في علاقته داخل الطور الجديد من شبكة العلاقات الإنسانية التي بدأت لأكثر من قرن تكتسي طابعاً عالمياً، في مناخ تعززت فيه القيم الإنسانية وفي مقدمها مفاهيم حقوق الإنسان، والمشاركة، والديموقراطية، الذي لم يعد بمقدور إي إصلاح ديني تجاهلها، وعلى هذا فقراراته لا تتعلق بالزمني والترابي، ولا بالراهن من المصالح ولا بأثقال الصراعات ولا بالمصالح التي تقف وراءها، لأن الزمن الديني يتعلق بما يشبه الأبدي والمقدس من الأهداف. فالمطلوب إصلاح ديني لا يُرهن نفسه للسياسة، وهذا الإصلاح يعتمد على تغيير رؤيتنا للعالم لينتسب إلى ذهنيات العالم الحديث والمعاصر، ومغادرة النظرة الملتبسة والمتشككة بالآخر في المجال الإنساني والعالمي، والمشاركة في إثراء المجال الثقافي الكوني، وتغيير النظرة السوداء إلى الآخرين في الوطن وفي الإنسانية وإدراك أن مشكلاتنا في علاقاتنا الدولية لا تتعلق بمشكلات (الهويات المتقاتلة) ولا بالصراع على المجال الديني، بل تتعلق بالصراع على المصالح التي يمكن أن تُحل على أساس من التسويات، أو الاعتراف بالمصالح المتبادلة، أن تغيير وعينا للعالم من الضرورة بمكان، يتوقف عليه ليس نجاح الإصلاح الديني الموعود، بل ثقتنا بالمستقبل وبقدرتنا الذاتية على إقامة حوار عميق مع الثقافة المعاصرة، نكون فيه شركاء في صياغة الثقافة الكونية المعاصرة، وإلاَّ بقينا كياناً مضطرباً لا يثق بنفسه ولا بالآخر، وهوية منعزلة ومفوتة معرضة للاضطراب، قادرة على التمرد والأذى اللذين لا يفضيان إلى شيء سوى الحفر بالأزمة وتعميقها! * كاتب سوري