تاريخية الحدث، على رغم وطأتها الصارمة، لم تحل دون واقعيته الصارخة بكل ما تراكم من تغيير واختلاف في نظرة الرعية والرعايا الآخرين الى ما هو ديني، أو في مقاربة الكنيسة لكل ما هو دنيوي. كانت زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر لبريطانيا مناسبة لفورات كل أنواع الجدال، بما فيه ما يرتبط بوساوس الأمن ومباغتات محتملة من الإرهاب المشتبه بأنه كامن منتظر ينتظر اللحظة للانقضاض. بدا اعتقال ستة أشخاص صادف أنهم عمال جزائريون كما لو أنه كان واجب الحدوث، أقله للإيحاء بأن «الإرهاب» وضع بصمته ولم يكن غائباً عن الاحتفالية الفريدة. ثم أطلق سراح هؤلاء، لأن شيئاً لم يحصل، ولم يمكن اتهامهم بشيء آخر غير أنهم وجدوا بحكم عملهم في مكان تتفقده الشرطة من قبيل الحرص والتحوّط. ليس معلوماً إذا كانت الشرطة تعتذر في مثل هذه الحالات، أو تعوّض عن العطل والضرر، خصوصاً أنهم أقحموا في سمعة لا يرغب أحد فيها هذه الأيام. بعد «الإرهاب» كإحدى علامات الزمن المعولم، تأتي الأزمة المالية التي تحضر الآن في كل حديث وتأكل من كل صحن، وها هي قد أثارت جدالاً سبق وصول البابا بأسابيع: لماذا تصرف الدولة ملايين الجنيهات على تنظيم رحلته وتأمين الحماية له، فليدفع الفاتيكان إذا كان الحبر الأعظم راغباً في زيارة المملكة المتحدة وفي التجول بين مدن أربع يتفقد كاثوليكييها، أو فليدفع الكاثوليك. عملياً تقاسمت الدولة والكنيسة أعباء الاستضافة. كان على المؤمنين أن يدفعوا لحضور القداديس وسواها من الفعاليات. لم يحدث هذا مع يوحنا بولس الثاني عام 1982، الذي كان أكثر كاريزماتية بلا شك، وكانت الأيام مختلفة تماماً، ثم انه لم يأتِ في زيارة دولة وإنما في إطلالة رعوية اكتظت خلالها الملاعب بالذين جاؤوا لسماع خطبه وهو في أوج مواجهته مع الشيوعية والأنظمة الشمولية. كان البابا الراحل يوصف بأنه ملهم الشباب، يخاطبهم بما يعتمل في نفوسهم، على رغم انه لم يجدد في أي القضايا التي يُطالب فيها خلفه الآن باتخاذ قرارات شجاعة وحداثية. أياً تكن الاعتبارات التي واجهها بنديكتوس السادس عشر، فقد غدا الرئيس الأول للكنيسة الكاثوليكية الذي يستقبل في البلد الذي تمرد وانفصل عنها عام 1535 بأمر الملك المزواج الغاضب هنري الثامن، ليس فقط لأن الكنيسة رفضت تطليقه من زوجته وانما لأنه سئم من التحالفات التي ترعاها الكنيسة في أوروبا واعتبرها موجهة ضد مملكته. مذاك أصبحت لبريطانيا كنيستها الانغليكانية، ولم يعد الكاثوليك فيها الآن سوى أقلية لا تعدو العشرة في المئة من السكان. فيما يجهد الشرق لإبقاء الغليان السنّي – الشيعي تحت سقف الخوف من الفتن، استطاع الغرب ان يحتوي فكرة حرق المصاحف ويخمدها من دون أي هياج أمني. وإذا كان الشيء يذكّر بالشيء فإن ثمة من هدد في بريطانيا بحرق نسخ من الإنجيل احتجاجاً على زيارة البابا، بجة ان «لا فائدة من استخدام الكتاب المقدس طالما ان الكنيسة لا تمارس تعاليمه». ظلت هذه مجرد وجهة نظر هامشية وبلا أي أهمية، ولم تقم تظاهرات ضدها. كان الذين جهروا باعتراضاتهم ومآخذهم على البابا خليطاً من كاثوليك وبروتستانتيين ولادينيين وملحدين، وتذهب احتجاجاتهم من كونه ضد حقوق المرأة في الإجهاض وتناول حبوب منع الحمل الى معارضته توزيع الواقي الذكري حتى في بلدان أفريقية فتك «الإيدز» بملايين من بشرها، كما تذهب في دعوته الى الفصل بين الجنسين في معاهد التعليم الى عدم اعترافه بحقوق لمثليي الجنس والمتحولين جنسياً. لكن القاسم المشترك للاحتجاجات كان فضيحة الانتهاكات والاعتداءات على الأطفال التي تورط فيها عشرات من رجال الكنيسة. منظمة العفو الدولية تعاملت مع «رئيس الفاتيكان» كما لو أنها بصدد رئيس لأي دولة عادية، إذ ذكرته بأن على دولته مسؤوليات واضحة بخصوص حقوق الإنسان، وطالما انه أقرّ بخطورة إساءة معاملة الأطفال فإن هناك حاجة الى فعل الكثير لتعويض الضحايا. لكن حركة أنشئت للمناسبة رسمت نفسها «احتجوا على البابا» دعت الى ضرورة كشف الحقائق في شأن القساوسة المدانين أينما كانوا في العالم. ولأن الاحتجاجات تمحورت حول هذه القضية فقد اضطر بنديكتوس السادس عشر، في كل كلمة، لأن يكرر الاعتراف بالخطأ والتعهد بإنصاف الضحايا، ولو أنه لم يخرج عن الإطار الضيق الذي رسمه الفاتيكان للحديث عن الفضيحة. لم تمنع حقيقة ان رعاياه أقلية من أن يطرح البابا أقوى أفكاره متحدياً اتهام كنيسته بالرجعية. فبعدما شددت المملكة اليزابيث في كلمتها الترحيبية على الانفتاح، وجّه بنديكتوس نقداً مباشراً لاتجاه بريطانيا الى أن تكون «مجتمعاً عصرياً ومتعدد الثقافات» متسائلاً كيف يمكنها في السياق أن تحترم القيم التقليدية التي لم تعد الصيغ العلمانية تعتبرها ذات قيمة أو حتى تقبل بوجودها. وفي خطاب آخر قارب بين النازية التي أرادت «إنهاء الاعتقاد بوجود الإله في المجتمع» وبين العلمانية. كان كلامه صدى لتصريحات أدلى بها مقربون منه، إذ شكا أحد مستشاريه من تفشي «إلحاد عدواني جديد»، وذهب الكاردينال الألماني والتر كاسبر الى وصف بريطانيا بأنها بلد «من العالم الثالث» بسبب «الكم الهائل من الناس ذوي الانتماءات المتنوعة» على أرضها. وكأنه يستوحي نقد المصرفي الألماني تيلو زاراتشين لفكرة اندماج المهاجرين في المجتمع الغربي واستنتاجه استحالتها. وقد أقيل هذا المصرفي من عمله. انتظرت زيارة البابا خمسة قرون، ولعلها في زمن آخر كانت تبقى أيضاً مستحيلة، بل ما كان يتصور وقوفه مع أسقف كانتربري في قداس مشترك. فحتى لو لم يبق شيء من هذا التلاقي لاحقاً، خصوصاً ان البروتستانت استاؤوا من دعوة فاتيكانية وجهت السنة الماضية الى الكنائس الانغليكانية للانضمام الى الكنيسة الكاثوليكية «مع احتفاظها ببعض الاستقلالية»، إلا أنه في غمرة الغلو العلماني والتطرف الديني يعطي مؤشرات الى ان اختلاف «المذاهب» لا يحول دون التسالم والتزاور. وإذ حلّ البابا في اليوم الأخير في برمنغهام لتطويب الكاردينال جون نيومان قديساً، فإن الأخير يعتبر أشهر بروتستاني اعتنق الكاثوليكية قبل توني بلير، لذا لم تفوّت الفرصة للتهكم بأن بلير يستطيع أن يطمح لأن يطوّب بدوره، خصوصاً أنه لا يزال لديه الوقت كي يكرس ما تبقى من حياته للتعبد والتكفير عن خطاياه ليكون مشروع قديس. * كاتب وصحافي لبناني