مثلما كانت أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 نقطة تحول في علاقة أميركا بالعالم الإسلامي، فقد كانت أيضاً بمثابة مصدر إلهام ومغذٍ لتيار جديد نصّبَ نفسه متحدثاً باسم الإسلام ومدافعاً عن حياضه، ولكن بمنطق تبريري واعتذاري ظاهره العقلانية والاعتدال، وباطنه الاستجداء والمنفعة. فعلى مدار السنوات العشر الماضية لمعت أسماء باحثين وكتاب ومثقفين مسلمين في الغرب، جميعهم يدّعي تمثيل الإسلام الصحيح والحديث باسمه، وأن ما عداه يمثل إسلام القرون الوسطى. وقد بنى هؤلاء أطروحاتهم وآراءهم على أنقاض وأطروحات التيار الآخر المتطرف الذي يتزعمه ابن لادن ورفاقه، وبينهما ضاع التيار العريض الذي يمثل الأمة بتنوعها واختلافها. لذلك لا تتورع الميديا الغربية، خصوصاً الأميركية، عن استضافة هؤلاء وتقديمهم باعتبارهم المسلمين «العقلاء» مقابل بقية المسلمين «الذين يحملون جينات العنف والتطرف». هذا الخطاب يمثل نوعاً من الإسلام الاعتذاري Apologetic Islam الذي يكشف مدى العجز والشعور بالهزيمة الداخلية لدى أصحابه. ولعل أبرز ملامحه، أنه أولاً خطاب «متهافت» يفرط في نقد الذات المسلمة وجلدها، وهو هنا لا يقتصر على مجرد نقد الممارسات الشاذة لبعض المتطرفين المهووسين بثقافة الجهاد، وإنما يصل إلى حد اعتبار أن الإسلام، كعقيدة ودين، يعاني أزمة هيكلية فيما يخص قيم الحداثة والتنوير. ويذهب بعض أنصار هذا الخطاب إلى الترويج الى أن الإسلام يعاني من ثقافة دفاعية Defensive Culture تخشى الانفتاح على الآخر والاندماج معه. وهو هنا لا يفرّق مطلقاً بين المسلمين والإسلاميين، أو بين العرب المسلمين ومسلمي شرق وجنوب شرق آسيا، أو بين الإسلام التركي ونظيره الإيراني أو الباكستاني، فالكل سواء ما دام المنبع واحداً. من جهة ثانية هو خطاب «تلفيقي» يقوم باقتطاع النصوص والأحداث من سياقاتها التاريخية لإثبات صلاحية وجهة نظره. وهو هنا لا يختلف كثيراً عن خطاب الجهاديين الذين يمارسون الحيلة نفسها من أجل تبرير أيديولوجيتهم وأعمالهم. وقد مررت على كتابات هؤلاء فوجدتها لا تخلو من انتقائية مفرطة تسعى الى تبرير مواقف وآراء بعينها. ويزداد حضور هذا الخطاب في الفضاء البحثي والإعلامي الغربي كلما ارتفعت قضية جدلية تخص الإسلام أو المسلمين مثل قضايا الحجاب وبناء المساجد والموقف من المرأة والإلحاد والشذوذ الجنسي... إلخ، فيقوم أصحاب هذا الخطاب بتقمص شخصية المدافع عن الإسلام «الذي لا يفهمه غيرهم»، ومحاولة إثبات صلاحية رؤيتهم وتأويلهم الإسلام. ويكفي أن يقوم أي من هؤلاء بنشر كتاب أو مقال يدّعي فيه إعادة قراءة وتأويل النص الإسلامي بطريقة «ليبرالية»، بحيث يمارس فيها أقصى درجات النقد والتعنيف للإسلام والمسلمين، حتى يصبح نجماً تخطفه الأوساط البحثية والقنوات الفضائية. ومن جهة ثالثة، هو خطاب «ما بعد استشراقي» Post Orientalist لغة ومضموناً. أي أنه تجاوز حدود الاستشراق التقليدي الذي كان يركّز على البعد الثقافي والحضاري للإسلام والمسلمين، كي يصل إلى التشكيك في النص الإسلامي ذاته. فعلى سبيل المثال يرى أنصار هذا الخطاب أن بذرة التعصب الإسلامي كامنة في بنية الخطاب الديني، وذلك بصرف النظر عمّن يحملها، ومن أجل نزعها يجب إعادة هيكلة المجتمعات الإسلامية ثقافياً ودينياً. أي أننا الآن نمتلك تياراً استشراقياً «مسلماً» يقوم بالمهمة نفسها التي قام بها المستشرقون الأجانب الأوائل والمحدثون، وربما أسوأ. فلا يخفي بعض هؤلاء شعورهم بالخجل من الانتماء الى العالم الإسلامي. وكلما تطرّفوا في النقد وجلد الذات ازداد حضورهم وتوطدت صورتهم كمسلمين «ليبراليين». ولعل الملفت أن معظم هؤلاء انتقلوا الى هذا النوع من الاستشراق إما بسبب تجربة شخصية أو حادثة فردية سببت لهم قدراً من المعاناة وجعلتهم حانقين على ثقافتهم ودينهم، ما يطعن في صدقية أطروحاتهم. ومن جهة أخيرة، هو خطاب نفعي وانتهازي يستغل جهل الغرب بالكثير من أبجديات الإسلام والمسلمين، كي يقدّم نفسه كمدافع عن الإسلام التنويري. وهو هنا يرتكب خطيئتين، أولاهما التحدث نيابة عن أكثر من بليون مسلم. وثانيتهما، اختطاف الإسلام من أجل تحقيق مصالح وأهداف ذاتية. وقد تحول الأمر بالنسبة الى كثير من هؤلاء إلى مجرد تجارة رابحة تجلب المال والأضواء. دعك من اختزالية وسطحية المكّون المعرفي لهؤلاء «الاعتذاريين»، فالرغبة في مخاطبة الإعلام والتحدث باسم الإسلام تطغى على ما دونها. لذا، فليس غريباً أن معظم هؤلاء قد جاء من حقل الصحافة والإعلام بمختلف أشكاله، ويعرف كيف يخاطب الجمهور «الغربي» ويشكل رؤيته للإسلام والمسلمين. وهم بارعون فى ترويج أنفسهم من خلال بناء شبكة اتصالات وعلاقات مع وسائل الإعلام التي تضمن لهم حضوراً مكثفاً خصوصاً في أوقات الأزمات، مثلما حدث أخيراً في أزمة «المركز الثقافي الإسلامي» في نيويورك أو ما بات يعرف بقضية «بارك 51». ولسوء الحظ فإن كثيراً من هؤلاء يقع ضحية لأجندات سياسية ودينية لا تخفي تحيّزها وعداءها لكل ما هو إسلامي، حيث تتم الاستعانة بهم ك «شاهد ملك» من أجل تمرير رسائل ووجهات نظر بعينها. ومثلما تم اختطاف الإسلام من قبل الجهاديين والمتطرفين، يتم الآن اختطافه من قبل المستشرقين «المسلمين» الذين لا يتورعون عن استخدام الحجج كافة لإقناع الغرب بأن لديهم إسلاماً مغايراً لذلك الذي يسمعون عنه، ولكن من منظورهم الفكري فقط. صحيح أن كثيراً من الكوارث ارتكب، ولا يزال، تحت لافتة الإسلام، بدءاً من منظومة الجهاد «الأعمى» ونهاية بالفتاوى الساذجة، بيد أن ذلك لا يُعالج بالانتقال الضدّي من أجل إرضاء الآخر واستجدائه. وللحق، فإن صدى هذا التيار قد بدأ يتردد في العالم العربي والإسلامي. وبدأنا نقرأ ونشاهد أناساً يتبنون هذا الخطاب «الاعتذاري» نفسه، وذلك تحت وطأة الشعور بالضعف الحضاري والاهتزاز النفسي. فقد انتشرت حديثاً دعوات تطالب بوقف بناء «مسجد مانهاتن» تحت مبرر «دفع المفاسد». وعلى رغم منطقية مثل هذا الطرح، إلا أنه يقوم على قياس خاطئ، فالقضية لا تتعلق بالتخوف من إثارة مشاعر ضحايا الحادي عشر من أيلول، وما قد يؤدي إليه ذلك من إساءة لصورة الإسلام والمسلمين، وإنما تتعلق بالاعتراف بحق الأقلية المسلمة بالتمتع بالحقوق والحريات نفسها التي يضمنها الدستور الأميركي للجميع من دون تمييز. صحيح أن ما يطرحه إمام المركز الإسلامي لا يخلو من مبالغة إعلامية، بيد أنها لا تقارن مطلقاً بمبالغات المعارضين لبناء المركز الإسلامي، الذين يعتبرونه منصة انطلاق لتطبيق الشريعة الإسلامية في أميركا. ولو تريّث هؤلاء لفهموا طبيعة الدوافع السياسية التي تقف خلف الحملة المعادية للإسلام والمسلمين في الولاياتالمتحدة، ولتبيّنوا حقيقة ما يقوم به تيار الصقور داخل الحزب الجمهوري الذي يتمدد حالياً في الفضاء السياسي الأميركي تحت مسمى «حزب الشاي» Tea Party، ويسعى للعودة بأميركا إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى حيث العزلة والانكفاء. وهو حزب انعزالي وعنصري يرفض كل ما هو غير أميركي، ويشكك في كل ما له علاقة بالإسلام والمسلمين. لا ينكر أحد مدى التردّي والضعف الحضاري الذي أصاب حضارتنا وهويتنا لأسباب لا محلّ لذكرها الآن، بيد أن الإفراط في «جلد الذات» طمعاً في تحقيق مكاسب شخصية أو استرضاء للآخر هو أشبه بمن يسكب الملح على جرح فاغر. * أكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا [email protected]