أيامٌ فقط تلت إطلاق «المبادرة» لنقل رفات الفنان الفلسطيني الكبير من لندن الى وطنه، حتى قرأنا أنّ مثقفين فلسطينيين أطلقوا حملةً ضدها، من باب أنّ الرفات سينتقل من لندن إلى رام الله، ما يعني بحسب أصحاب الحملة اغتيالاً ثانياً لصاحب «حنظلة»، ونقلت «الجزيرة. نت» عن هادي شاكوش، عضو هيئة تحرير الموقع الإلكتروني «أجراس العودة» الذي دشن الحملة، قوله إنَّ محاولةَ نقل الرفات خطيرة، كونها تتعاطى مع رام الله كوطنٍ للفلسطينيين، «فيما وطننا هو فلسطين التاريخية». وأشار الرجل إلى الوصية التي شاع أن ناجي أشْهَرَها، وهي دفنُه في قريتِه الشجرة في قضاء طبريا في فلسطينالمحتلة في 1948، أو في مخيم عين الحلوة في صيدا الللبنانية إنْ تعذّر الاحتمال الأول. مع كلّ الاحترام للنيّاتِ الطيبة لدى أصحابِ مبادرة نقل رفات رسام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر، وكذلك لدى أهل الحملة ضدها، والذين تردّد أنهم وصلوا إلى أكثر من 200 مثقف فلسطيني في الداخل والشتات في أقل من أسبوع، لا حَرَجَ في القول هنا إن هذا الجدال يبعثُ على الاستهجان، لأنه يؤشر إلى بُؤسٍ معلنٍ باتَ عليه الفعل الثقافي الفلسطيني، إنْ في الوطن أو خارجه. ببساطة، لأن تكريم ناجي العلي في مماته لا يكون أبداً بنقل رفاته من لندن الباردة إلى تربة فلسطين الدافئة، بحسب الكلام الإنشائي العاطفيّ إياه، بل يكون بما هو أنفع وأجدى وأهمّ، ومنه إطلاق مبادرة ضرورية نحو حسم الحقيقة في شأن جريمة اغتياله بالرصاص في العاصمة البريطانية قبل 23 عاماً، ومنه أيضاً إشاعةُ روح النقد الساخر والشجاع التي كانت لدى الفنان الكبير في الحياة الثقافية الفلسطينية ضد كل هذا الخراب والانحطاط في الحالة الفلسطينية العامّة، على غير صعيد. وإذا كانت لناجي مكانتُه غير المنسيّة في مسار المنجز الإبداعي الفلسطيني، الفني والثقافي، والوطني بالضرورة، والتي تسوّغُ إثارة اهتمامٍ بإمكانية نقل رفاته إلى بلده، فإنّ قبورَ آلافٍ من المناضلين والمفكرين والفنانين والعلماء الفلسطينيين، من ذوي العطاء الخاص والمميز، موزعةٌ في كل أرجاء الأرض، ولا نظنّ أنه يريحُ أرواحَهم، أن ينشغلَ الفلسطينيون بعظامِهم الرّميم، فيما الفلسطينيون الأحياء، في وطنهم وفي غير مطرحٍ في الشتات، هم الأحوجُ إلى من يلتفتُ إلى رداءةِ عيشهم واستضعافهم واعتبارهم كتلاً بشرية لا قيمة لأيِّ مواقف وتصوراتٍ لديها في شأن الجاري في قضية وطنهم المحتل. يستحقّ ناجي العلي أن يبقى في ذاكرة الفلسطينيين، بل وأنْ تُوزّع رسومه عليهم، باعتبارها موروثاً وطنياً لهم، وفي البال أنّ المنشور منها نحو ثمانية آلاف، فيما هي تزيد عن 40 ألفاً، بحسب ما قال أصدقاءُ له. ولأنّه فنان قبل كل شيء، تعاملَ بالريشة وأبدعَ بالسخرية المرّة تعبيراتٍ بالغة الحذاقة في منجزِه الوفير، لا يحسنُ النظر إليه مثقفاً متطرفاً، وإن اعتبر القبول بالقرار الأممي 242 «خيانة عظمى»، وإنْ تبنّى أن الطريق الوحيد إلى فلسطين يمر عبر استعادتها كاملة، وإنْ أصاب بعضَ كاريكاتيرات أخيرة له شططٌ في الانتقاد الشخصي الجارح لزعاماتٍ وشخصياتٍ فلسطينية. وإذا كانت ذكرى وفاته بعد اغتيالٍ بالرصاص قد استدعت ارتجال بعض من أحياها فكرة نقل رفاته، فقد كان الأوجب أن تستنفر الذكرى مشروعَ جمع رسومه وتبويبها وتصنيفها وتوفيرها في كتبٍ ومطبوعاتٍ يتيسّر الوصول إليها، ويسهل ترويجها، مرفوقةً بمطالعاتِ مختصين في جماليات الكاريكاتير، توضح القيمة الفنية عالمياً لمنجز ناجي العلي. هذه واحدةٌ من مهماتٍ أجدى بالنظر والدعم من فكرة نقل الرفات، ثم التنازع تالياً في شأن ما إذا كانت ستؤشر إلى اعتبار رام الله وطناً للفلسطينيين. يحدث هذا الأمر المضحك فيما اتهام الزعيم الراحل ياسر عرفات بتدبير قتل ناجي باقٍ في أذهان بعض الفلسطينيين، ظهر أحدهم على شاشة «الجزيرة»، قبل شهور، في فيلم (من إخراج ساندرا الأبرص) عن الفنان الراحل وجريمة اغتياله، وحجتهم ذلك الغضب الذي كان لدى عرفات من ناجي، وهذا كلام لا تزيّد في القول إنه يقومُ على ثرثراتٍ متهافتة، وإن كان ذلك الغضب كبيراً، ليس فقط لأن «يديعوت أحرونوت» نشرت قبل عشرِ سنوات أسماءَ فلسطينيين دبّر جهاز الموساد تصفيتهم، منهم ناجي العلي، بل أيضاً لأنّ المعنى العميق لإبداعات هذا الفنان الرائق مقلقٌ لإسرائيل على المدى البعيد. وفي البال أنّ الفيلم جاء على اسمي شخصين مشبوهين، ربما ارتكبا جريمة الاغتيال لمصلحة الموساد. المهمّ ألا تُصاب القضية بالتقادم والتناسي فتبقى حية، وأنْ يظلَّ الهجسُ بكشف قتلة الفنان الكبير محمياً من متاهات النسيان. وفي وسع أسرة الفقيد الكبير أن تبادرَ إلى إعلانِ أولوية هذا الأمر على مبادرة نقل الرفات من لندن، لأنّ أولويتها هي التي ينبغي أن تتقدم على غيرها. أما وأنّ اهتراءَ الحالة الفلسطينية باتَ مريعاً، وللأسف على الصعيد الوجداني أيضاً، فذلك يقتضي أن يكون صوتُ المثقفين الفلسطينيين عالياً وصريحاً وشجاعاً، في إنقاذ ما يمكن إنقاذه في راهنِ العطن والتعاسة والتشوش الذي لا يمكن التعميةُ عليه، ولا يجوز التواطؤ معه. ومن هنا، تتبدّى أهمية التسلح بالرافعةِ الوجدانيةِ التي كان يُشْهِرُها ناجي العلي في منجزِه الفني وسخريته الجارحة، من أجل تعيين الوجهة الصحّ للقضية الفلسطينية، وتعيين الوجهة الغلط أيضاً. هو احترامُ ناجي وذكراه يحسنُ أن يُصَوّبا النقاش في شأنه، وفي شأنِ الحالة الفلسطينية كلها، وهو نقاشٌ لا غلوّ في القول إنّ حكاية نقل الرفات من لندن إلى رام الله أو عين الحلوة أو الشجرة لا يجوز أن تكون في صدارته، مع التنويهِ بالنيّات الطيبة لأصحاب هذه المبادرة... ومعارضيها أيضاً. * كاتب فلسطيني.