تبدو صحيفة «لوموند» الفرنسية بعيدة اليوم من الأجواء الكئيبة التي عاشتها في الأشهر الماضية حتى منتصف الصيف، حين كانت الجريدة العريقة تبحث عن منقذ يبعد عنها شبح الإفلاس الذي دغدغ مخيلة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بأن يتمكن صديقه أرنو لاغاردير من ضم الصحيفة العتيدة الى إمبراطوريته الإعلامية. لكن الصحيفة أفلتت من «قبضة» الرئيس الطامح إلى الإمساك بزمام الإعلام الفرنسي... في شكل أو في آخر. وحفل المشهد السياسي - الإعلامي في فرنسا بالنقاشات الحادة التي بدأت مع وصول ساركوزي (55 سنة) إلى سدة الرئاسة في أيار (مايو) 2007، من النقاش حول الهوية الوطنية والجدال حول البرقع (النقاب)، مروراًًًً بالإشاعة حول صحة العلاقة الزوجية بين الرئيس الفرنسي وزوجته عارضة الأزياء السابقة والمغنية الإيطالية الأصل كارلا بروني (43 سنة)، وهي الرواية التي كلفت رئيس تحرير الموقع الألكتروني (الذي نشر الخبر) منصبه. العلاقة بين وسائل الإعلام والرئيس ساركوزي كان لها طابعها الخاص منذ البداية، نظراًً إلى شبكة علاقاتة مع كبار مسؤولي أهم وسائل الإعلام الفرنسية. وفي آخر كتاب حول حياة السيدة الأولى بعنوان «كارلا والطموحين» (صدر بموافقتها) مؤلفاه ميشال دارمون وايف دوريه يكشف أن كارلا ساركوزي اطلعت على ملف تحقيق الشرطة التي تعقبت المكالمات الهاتفية للكشف عن مصدر الإشاعة حول الثنائي الرئاسي... فكانت الوزيرة السابقة رشيدة داتي. ومنذ مطلع الصيف تعيش فرنسا على وقع الفضيحة التي كشفتها «لوموند» حول حماية ثروة ليليان بتانكور، وريثة امبراطورية «لوريال»، من الضرائب وتمويلها في طريقة غير شرعية حملة الرئيس قبل وصوله إلى سدة الحكم في البلاد وتورّط مباشر لوزير العمل الفرنسي إريك ورث في القضية، على رغم تراجع الجدل حولها الى المرتبة الثانية بعد قضية ترحيل الغجر والانتقادات اللاذعة التي تلقتها فرنسا من المفوضية الأوروبية وتبعاتها. وكانت «لوموند» كشفت في تموز (يوليو) الماضي عن محضر استماع الى لوميستر، مستشار بتانكور، الذي كشف تشابك المصالح في القضية. وتبيّن من المحاضر التي حصلت عليها «لوموند» أن الشرطة المالية تتعقب تشابك المصالح وتوجه تحقيقاتها في اتجاه الثنائي ورث. وما أثار حفيظة قصر الأليزيه ان الخبر نشر قبل أيام من الاستماع الى شهادة الوزير. وعندما تساءلت مجلة «لو نوفيل اوبسرفاتور» الأسبوعية، عن احتمال وقوع «لوموند» في شباك أجهزة التنصت في إطار «قضية بتانكور»، بعد انتشار خبر نقل أحد كبار موظفي مكتب وزيرة العدل ميشال اليو ماري، وهو مستشارها القضائي دافيد سينا، الى مدينة كايين الفرنسية، كانت كرة الثلج بدأت تأخذ حجماًً متعاظماً. ولم تتوقف «لوموند» عن حملتها، إلى حد رفع شكوى ضد مجهول لإختراق قانون حماية مصادر الصحافيين، وهو قانون أعاد التشديد على أهميته الرئيس ساركوزي وتناولته رشيدة داتي في تعديلاتها حين كانت وزيرة العدل. وكان رئيس قسم المديرية المركزية للاستخبارات الداخلية (مكافحة التجسس) برنار سكواريني أكد لصحيفة «لوموند» قيامه بالتحقيق، لافتاً أيضاً إلى ان مديرية «مكافحة التجسس» حققت أيضاً في مصدر الإشاعات حول صحة العلاقة بين الثنائي الرئاسي في الربيع الفائت، وتنصتت على مكالمات رشيدة داتي والزوجة السابقة للشقيق الأصغر للرئيس، وذلك بحجة «حماية الأمن القومي». واستندت «لوموند» في نقضها الى عدم إمكان توظيف القانون لحماية وزير أو حزب سياسي، وكون وزير مهدداً بما قد تكشفه الصحافة... لا يعني أن المصلحة الوطنية مهددة. وبنت استشارتها الى قاض لم يفصح عن هويته أكد في تصريح للصحيفة أنه على أبعد حد يمكن اعتبار المصالح الاقتصادية الأساسية مهددة، لكن هل هي الحال بالنسبة إلى مجموعة تصنع الشامبو. والحالة الاستثنائية التي قد يأخذها القانون في الاعتبار لكشف المصدر هي المصلحة الاقتصادية بحسب نص القانون، وهذا ما لم تستخدمه المديرية العامة للأمن الوطني، في ردها على اتهامات «لوموند». ويرى القاضي ان «السلطة تستخدم قراءة موجهة للقانون. وهذا أمر خطير، لأن هذا القانون حيوي لحماية الوطن. ولا يمكن تحييده عن هدفه». كما أن حماية المصالح الوطنية لا يمكن في أي حال أن تنص على حل قضية تسريب (معلومات)، في حال لم تعرّض هذه التسريبات الأمن القومي أو الوحدة الجغرافية الوطنية للتهديد. وقررت «لوموند» إذاً مواصلة القضية للدفاع عن حق حماية مصادر الصحافيين، وشككت الصحيفة في الإستراتيجية الدفاعية التي تبناها قصر الأليزيه في قضية تسريبات المعلومات للصحافة. وفي تصريح لمجلة «لوبوان» الأسبوعية أعلن مديرها اريك فوتورينو أن القانون الذي ينص على حماية المصادر الصحافية أعيد تأكيده في قانون داتي مطلع العام 2010، معتبراًً أن النص التشريعي ما زال حديثاً ولم يخضع للتفسير من جانب القضاء. وأكد أهمية الحصول على مرجعية قضائية على أساس القانون الجديد، مشدداً على أهمية توكيل قاضي تحقيق في «قضية بتانكور» وأن الشكوى التي تقدمت بها الصحيفة تذهب في هذا الاتجاه. وكان قصر الأليزيه برر عملية التنصت للكشف عن مخبر «لوموند» في فضيحة «ورث – بتانكور» بحجة حماية المصالح الوطنية. ويشير القانون الى عدم التعرض مباشرة، أو في شكل غير مباشر، لسرية المصادر إلا في حال تأكيد ضرورة تمس المصلحة العامة. وأثناء النقاش البرلماني في فرنسا، لم يتم تحديد طبيعة التهديد بل تركزت النقاشات حول كشف المصادر في حال خطر محدق بأمن المواطنين وفي إطار تهديد إرهابي. وما يجري حوله التساؤل في فرنسا هو معرفة هل يمكن استخدام «مكتب مكافحة التجسس» للقضاء على مصدر أخبار الصحيفة؟ أياً يكن، فإن هذه القضية تأتي فيما تتباين الآراء داخل حزب الأكثرية، ما يهدد الحزب الحاكم خصوصاً في ظل حصول رئيس الوزراء السابق دومينيك دوفيلبان على دعم أعضاء جدد من الوسط.