1 في العالم مدن عابرة.. ومدن معتبرة. منذ أن تهبط بنا الطائرة في دبي، ندرك أننا لسنا: عابرون في مطار عابر! قصص النجاح الشمالية كثيرة ومتوالية في العالم، لكن قصص النجاح الجنوبية أو الصحراوية نادرة وملفتة، لأنها تكون قد قاومت الرياح والجفاف والرمال من أجل أن تزرع نبتة خضراء رطبة في أرض صفراء يابسة. دبي.. قصة نجاح صحراوية، في أرض لا تمطر فيها السماء غيثاً ولا الأرض نفطاً. قاوم محمد بن راشد آل مكتوم قحط السماء والأرض، فاستمطر الإنسان ليسقي به شتلات أفكار صغيرة تنمو وتكبر.. حتى تصبح أشجاراً. رأيته، في افتتاح واختتام منتدى الإعلام العربي بدبي الأسبوع الماضي، وهو لا يتكئ على ظهر كرسيه إلا لظروف بروتوكولية عندما تتجه كاميرا التلفاز نحوه! و عندما تبتعد الكاميرا عنه يعود إلى طبيعته وشخصيته الحقيقية التي صنعت دبي. فهو يجلس متحفزاً كأنه سيقفز في أي لحظة، إلى الأمام أو إلى الأعلى، لكنه يكره (الرجوع إلى الخلف).. للاتكاء على ظهر الكرسي الوثير. حقاً.. لا يمكن أن يصنع النجاح رجل يتكئ بظهره على كرسيه طوال وقته! أخذني الصديق الدكتور سعيد حارب في جولة سياحية على دبيالجديدة، ودبي كلها جديدة!، ليريني آثار الأزمة المالية العالمية على نهضة البناء والتعمير في دبي. لا أرى عن يميني وشمالي سوى بحار تمتد أفقياً وأبراج تمتد رأسياً وورش عمل لم تنقطع، كأني أتجول في بلاد السندباد. سألت صديقي: أين الأزمة المالية، أين انهيار دبي الوشيك الذي يتحدث عنه الإعلام الغربي؟! القول بأن دبي لم تتأثر أبداً بالأزمة المالية.. مكابرة، لكن القول أيضاً بأن دبي تنهار.. مغالطة لا تخلو من الحسد ! 2 دبي لم تبن أبراجاً فقط، بل بنت معها مؤسسات وإنساناً جديداً ينسجم مع دبيالجديدة. لم يكن نادي دبي للصحافة ليتميز وينجح لولا نجاح منى المري. ولم يكن منتدى الإعلام العربي ليزهو وينضج لولا استكمال مريم بنت فهد وزملائها أحمد رئيسي وجاسم الشمسي وعبدالعزيز صادق وسواهم، مسيرة النجاح السابقة. وليس خافياً أن من أهم مغريات الاستجابة للدعوة إلى مؤتمر أو منتدى ليس البرنامج المنبري فقط، بقدر ما هو قائمة أسماء المشاركين والضيوف الذين سيحيون وينعشون البرنامج غير المنبري الأجمل والأمتع الذي ينعقد في الردهات وصالونات الاستراحة، من دون حسيب أو رقيب على الزمان أو الكلام! تلك هي الميزة المضافة التي توافر عليها منتدى دبي من خلال القائمة الفاخرة والوافرة بالأسماء العربية والعالمية من المثقفين والإعلاميين، من الجيل القديم والجيل الجديد، ومن الجيل القديم المتجدد بزعامة الإعلامي الإلكتروني المخضرم عثمان العمير. 3 في ختام المنتدى كانت الجلسة الأكثر سخونة، تلك التي أدارها الصديق الدكتور سليمان الهتلان صاحب الحوارات (الحرة) الشهيرة. كاد بعض المشاركين في الجلسة الختامية أن يمسكوا بتلابيب بعض، كنا حينها سنصف الجلسة بقولنا: ختامها «مَسك» (بفتح الميم)! في جلسة تتناول (التغطية الإعلامية لحرب غزة) لا بد أن يكثر الجدل العربي حول التفاوت الكبير في موقف أهل «الجزيرة» «العربية» من حرب غزة! قال أحدهم: بعض القنوات الفضائية ليست وسيلة إعلامية بل وسيلة حربية. تذكرت حينها كيف كانت CNN عام 1990 قناة حربية مقاتلة مع الجيش الأميركي أكثر من كونها قناة إعلامية، خصوصاً إذا قارنا بين الأسلوب الهوليوودي الذي اختطته CNN في نشرة أخبارها الحربية، بالأسلوب الرصين والمهني الذي كانت وما زالت هيئة «البي بي سي» البريطانية تسير عليه في تغطيتها المحايدة (الحياد النسبي بالطبع). بين خوفنا من نموذج CNN وأملنا بنموذج BBC، بدأت القنوات الإخبارية العربية تتوالد. في الحرب على غزة تحولت القنوات الإخبارية العربية إلى منصات سياسية، حربية أو حزبية، مع أو ضد، ثورية أو تريثية، عرب جية أو غرب جية! اختلط الحابل بالنابل، ولم يعرف المشاهدون العرب هل يدعون للمقاومة الفلسطينية أم يدعون عليها لأنها استفزت الثور الهائج؟! وهل يدعون على الجيش الإسرائيلي المعتدي أو يدعون له حتى يسهم انتصاره «المنتظر» في إيقاف نزيف الحرب والقتلى «الشهداء ربما!»؟! وفي ختام المشهد الإعلامي لغزة: لا «الجزيرة» منعت الحرب.. ولا «العربية» منحت السلام! 4 دعونا نختم رحلة دبي بما هو أكثر فرحاً من جدل غزة المرير. كان الحضور على موعد احتفالي ختامي لجائزة الصحافة العربية لعام 2008. فاز المستحقون بلا شك، وعلى رأسهم الاعلامي القدير طلال سلمان. لكن جائزة أفضل عمود صحفي لم تكن اعتيادية لأنها ذهبت إلى كاتب غير عادي. الكاتب الكبير سمير عطا الله يحمل امتيازات كبيرة لكنها لا تفوق الميزة الأصغر له عند قرائه الذين يظنون كلما قرأوا مقالاً لسمير عطا الله أنه يمكنهم أن يكونوا كتّاباً من الغد، لكن هذا «الغد» يتطاول مجيئه على القراء البسطاء ! قلت لعريس الكتابة الصحفية، بعد الاحتفال والزفةّ: مقالتك اليوم (صحيفة «الشرق الأوسط» 12/5/2009) وحدها تستحق جائزة. موهبة الكتابة هي «عطا الله».. يهبها من يشاء من عباده. * كاتب سعودي [email protected]