تورد عميلة الاستخبارات الإسرائيلية شايلا كوهين التي عملت في لبنان بين عامي 1948 و1960، في كتابها «اللؤلؤة» مقاطع من حوار أجري بينها وبين ضابط في الاستخبارات الإسرائيلية في منزل في مدينة حيفا، على النحو الآتي: «عندما تبحثين عن متعاون وصلات كوني حذرة من المسلمين السّنّة، الشيعة متعاونون أكثر... إنهم أقلية في المنطقة ومضطهدون في غالبية الدول العربية لذلك لا يرون أنفسهم عرباً بل أقرب إلى إيران التى تعتبر الدولة الوحيدة ذات الغالبية الشيعية في المنطقة وهي ليست دولة عربية. في المقابل السّنّة اقرب الى التيارات القومية العربية، حتى اولئك الذين لا يحبذون منهم الوحدة مع سورية يؤيدون اندماج لبنان في عمقه العربي. أما المسيحيون الموارنة فهم بمجملهم يحلمون ببناء دولة مسيحية في لبنان ويخشون ان يسيطر المسلمون على الحكم ومنهم من يعتبر أن اسرئيل هي الدولة غير المسلمة الوحيدة في المنطقة وأنها حتماً ستتدخل لمساعدتهم. ولكن يجب ان تكوني حذرة في التعاطي مع مسيحيين من الشمال لأن هؤلاء يعيشون أقلية في بيئة سنّيّة يخشونها». كوهين اكتشفتها الأجهزة الأمنية اللبنانية عام 1960، واعتقلت وحكمت 20 سنة وخرجت من السجن في عملية تبادل عام 1967، وكتبت مذكراتها عام 1970 وأطلقت على كتابها اسم «اللؤلؤة»، وهو الاسم الذي منحتها إياه الاستخبارات الاسرائيلية أثناء عملها في لبنان. ما كتبته كوهين نقلاً عن مسؤولها في الاستخبارات الاسرائيلية لا يصلح اليوم لتفسير أي شيء يتعلق بشبكات التخابر والتعامل مع اسرائيل التي أعلنت السلطات اللبنانية عن كشفها في السنوات الأخيرة، لا سيما لجهة وصف الشيعة في لبنان بأنهم البيئة الملائمة للاستثمار الاسرائيلي بسبب ظلامة تاريخية لحقت بهم، إذ إن هذه الظلامة صارت جزءاً من الماضي، ثم ان «حزب الله» كرس الشيعة رأس حربة في قتال الإسرائيليين. وهو لا يصح أيضاً لجهة المناعة السّنّية حيال التعامل مع اسرائيل بسبب انتماء السّنة الى مزاج عربي أوسع يعتبر اسرائيل خطراً يهدد منظومة «أكثرية» يشكل المسلمون السّنة عمادها، إذ إن الفرز السياسي والطائفي الذي شهده لبنان في السنوات الخمس الأخيرة أعاد فرز المواقع على نحو مختلف. المسيحيون بدورهم، يبدو أن التصنيفات التي طاولتهم والتي أوردتها كوهين في كتابها، بعضها يستبطن تصنيفاً نمطياً وبعضها الآخر تغير بفعل المرارات التي كابدتها اليوم قوى مسيحية سبق ان استثمرت ما أوردته كوهين. لكن ما ورد في كتاب عميلة الاستخبارات الاسرائيلية السابقة قد يُشجع المرء على التأمل في ما أطلق عليه أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله تسمية «البيئة الحاضنة»، اذ إن شبكات التعامل مع الاسرائيليين والتي تم الكشف عنها في الآونة الأخيرة قد توفر عينة للبحث بما يتعدى البيئة الطائفية أو السياسية التي أجريت ضمنها عمليات التجنيد والاستثمار. ولكي يتجنب المرء االسقوط في الفخ الطائفي اثناء تقصي أحوال هذه البيئات والسعي الى تحديد ملامحها، لا بد أولاً من استبعاد المضمون السياسي الذي أوحى «حزب الله» بأنه يعنيه من وراء طرحه حكاية «البيئة الحاضنة»، اذ إنه زج ذلك في سياق انقسام داخلي راح يوحي بأن تلك البيئة هي تماماً بيئة خصومه السياسيين، في حين لم تسعف الحزب في ادعائه وقائع الكشف عن الشبكات، فظهر من بينها مثلاً قريبون على نحو شديد من بيئته الخاصة وظهر أيضاً من هم قياديون من بين حلفائه. وأوغل الحزب في مساعيه لإيجاد رابط بين خصومه السياسيين وبين شبكات التعامل مع اسرائيل من دون ان ينجح. لا يسعى هذا الكلام لإدانة الحزب في هذا المجال، اذ من الطبيعي ان يكون الجهد الاستخباري الاسرائيلي منصباً على بيئة الحزب قبل غيرها، انما يسعى هذا الكلام الى محاولة انتزاع تفسير للتعاون والتعامل مع الاسرائيليين من لغة الانقسام السياسي اللبناني، ووضعه في سياق يحتمل التفسير والتدقيق من خارج منظومة «التخوين» الرائجة. واذا كان من شيء يُستفاد منه من لغة شايلا كوهين في وصفها الساذج التركيبة اللبنانيةَ، فهو يتمثل في ان اللبنانيين ومع كل شبكة جديدة تكتشف يشرعون بإحصاء ورصد الهويات الطائفية والاجتماعية لأفراد الشبكة المكتشفة. وخلافاً لما يدعيه الخطاب الرسمي والخطاب «المقاوم» لجهة ان لا طائفة ولا دين للعميل الاسرائيلي، تتمثل الحقيقة في الوعي اللبناني في ان للعميل طائفة وديناً تحسب عليهما عمالته وتحسب لخصومهما، وهو أمر ليس ضمنياً على الإطلاق وان كانت مظاهره مكبوتة في إطارها الشفوي. ففي المرحلة الأولى من عمليات الكشف عن العملاء كانت عملية اعتقال خلية محمود رافع التي حكم على عضويها أي رافع وحسين خطاب، والأخير فلسطيني من مخيم عين الحلوة، بالإعدام بسبب تورطهما في عمليات اغتيال. ورافع هو لبناني من بلدة حاصبيا الجنوبية، وفي حينه لم تبخل المخيلة الطائفية اللبنانية من محاولات تفسير عمالته وفقاً لانتمائه الطائفي، وسعت صحافة كثيرة الى البحث عن علاقة بينه وبين الحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان في حينه يناصب «حزب الله» خصومة شديدة. بعد شبكة رافع تم الكشف عن شبكة كفرتبنيت التي يبدو أن رأسها وهو مروان فقيه كان شديد الصلة بمسؤولين من «حزب الله». لكن قضية فقيه، ولكونها متصلة باختراق مباشر لبيئة «حزب الله» بقيت في منأى عن التسرب واقتصرت المعلومات حولها على حكايات متداولة على شكل إشاعات غير مثبتة وغير منفية. أما المحطة الثالثة في مسلسل الكشف عن الشبكات فتمثلت في إلقاء القبض على علي الجراح، وهو ناشط في «تيار المستقبل» في منطقة البقاع سبق أن ربطته علاقات مع تنظيمات فلسطينية واخرى ناصرية الى ان جرفته موجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فألفى نفسه في ذلك التيار المتشكل في أعقاب الاغتيال. وجهدت في حينه الآلة الإعلامية القريبة من «حزب الله» على ربط علاقته بالإسرائيليين بانتمائه السياسي والطائفي، فصُوّر منزله في بلدته ترتفع فوقه صورة للرئيس الراحل رفيق الحريري، وتساءل «المحللون الأمنيون» في الصحف عن علاقته بنواب «المستقبل»، لا سيما ان نائباً من التيار ينتمي الى العائلة نفسها التي ينتمي اليها علي الجراح. لكن بعد ذلك أصيبت بوصلة التخوين بخلل كبير، إذ إن الهوية الاجتماعية والسياسية للشبكات المكتشفة في أعقاب ذلك راحت تؤشر الى اتجاهات أخرى تماماً، لم تسعف الساعين الى ربطها بالانقسام السياسي والطائفي في البلد. واذا كان من الصعب تحديد انماط من العلاقة بين الهويات المختلفة للشبكات المكتشفة وبين خريطة الانقسام، فإن ملامح أخرى يمكن تحديدها بعيداً من المؤثرات الطائفية على رغم ثبات الأخيرة في الوعي اللبناني واشتغالها عند كل اعلان عن كشف في مجال الاستخبار مع الأجهزة الإسرائيلية. أولاً من الملاحظ ان معظم الشبكات التي أعلن عن اكتشافها عملت او تمركزت في مناطق خارج المدن، وكان أفرادها من المقيمين في قرى أو من أبناء هذه القرى ويقيمون في مناطق قريبة من بيروت، أي الضواحي الجنوبية والشرقية من العاصمة. ونسبة غير قليلة من هؤلاء كانت عسكريين متقاعدين من رتب عالية، وبعضهم لم يتقاعد بعد. ونسبة أخرى من هؤلاء كانت فنيين في شركات اتصالات إما مختصة بالإنترنت وإما بالهاتف الخليوي. ومن الواضح ان توزيعاً من هذا النوع ل «البيئات الحاضنة» يساعد على خلاصتين، الأولى ان خيار الأجهزة المُجنِّدة يعتمد على اختصاص المُستهدفين بالتجنيد قبل اعتماده على قابليتهم وفقاً لمعادلة شايلا كوهين، فالإسرائيليون يريدون خبراء ولا يريدون مناصرين، وجهودهم في تجنيد عملاء لهم منصبة بالدرجة الأولى على هؤلاء. اما الخلاصة الثانية فمرتبطة الى حد كبير بالقابلية للتجنيد، فمن اللافت حتى الآن ان ظاهرة الشبكات المكتشفة تكاد تقتصر على ريفيين في لحظات صعودهم الاجتماعي، وفي مرحلة تبدل ظروف عيشهم، أو خلال سعيهم الى تغيير أحوالهم. وقد ينسحب ذلك على ما يتعداهم كشبكات الى الأحوال المحيطة بهم. فال «بيئة الحاضنة»، اذا ما أردنا ان نتبنى مصطلح «حزب الله»، هي تلك التي تشهد حالاً من عدم الاستقرار، والمتحفزة للصعود السياسي والاجتماعي، والمعرضة في الوقت نفسه لتقلبات واحتمالات قد تودي بها، أو قد ترفعها، وفقاً للظروف والأحوال. وهذه طبعاً ليست حال الفئات المدينية المستقرة على تبادلات واضحة والخاضعة لمنطق صعود او هبوط هادئ وراسخ. يبدو واضحاً من نتف سير الاشخاص المُكتشفة عمالتهم ان كثيرين منهم ليسوا «نكرات» اجتماعية، فكثيرون منهم كحال الضابط المتقاعد أديب العلم ومروان فقيه ومحمود رافع وعلي الجراح، هم إما وجهاء محليون في قراهم يسعون الى دفع وجاهتهم أبعد قليلاً، وإما متحفزون للتقدم بأوضاعهم وأعمالهم على نحو سريع. الأمر الثاني الذي يمكن رصده في ما توافر من هويات أفراد شبكات التعامل المكتشفة مع الاسرائيليين، هو صدور معظمهم عن بيئات غير حزبية، مع ضرورة التمييز بين الأخيرة بصفتها انتماء لجهاز حزبي واضح وراسخ كما هي حال «حزب الله» و «القوات اللبنانية»، وبين الانتماء لتيار سياسي ضعيف التنظيم وقليل الدراية بقواعد العمل التنظيمي كالتيار العوني و «تيار المستقبل»، ويمكن هنا إدراج حركة «أمل» ضمن فئة التيارات لا الأحزاب. فالحزبية تمثل اندراجاً في سلم ارتقاء واضح، وهي تبث قيم الولاء في وعي أفرادها، والعلاقة مع جهات سياسية وامنية يحكمها منطق العلاقة مع الحزب وتحصل من خلاله، ناهيك بقدرة الأحزاب على ضبط ومراقبة مجموعاتها على نحو يفوق قدرة التيارات. اما الأخيرة فلا ضوابط واضحة تحد من طموحات عناصرها، لا بل ان بعضهم قد يجتهد في انشاء علاقة سياسية وأمنية مع أطراف يعتقد انها تخدم خيار تياره. ووفق المعادلة أعلاه يبدو غريباً تنطّح «حزب الله» للحديث عن البيئة الحاضنة، اذ إنه بذلك يكون قد نصب فخاً لنفسه. فمن الطبيعي أولاً ان يجهد الاسرائيليون لتجنيد عملاء لهم في مجتمع «حزب الله» وفي بيئته، اما الحديث عن المناعة فاختباره الفعلي يؤشر الى انه لا يعدو كونه كلام منابر لم يصح في معظم الحالات المكتشفة، اذ إن «حزب الله» يعمل ويستثمر ويطمح في بيئة تمثل منطقة تجنيد نموذجية للإسرائيليين، اذا استبعدنا طبعاً البيئة الحزبية المباشرة. وهذه ايضاً حال البيئات الحليفة للحزب، لا سيما بيئتي التيار العوني وحركة «أمل» الفضفاضتين واللتين لا يسع الحزب لضبط ضفافهما المترامية. وغرابة اندفاعة «حزب الله» في حديثه عن البيئات الحاضنة تكمن أيضاً في ان بيئات خصومه أقل عرضة للاختراق الاسرائيلي، ف «تيار المستقبل» مثلاً عرضة للاختراق لجهة ضعف تماسكه وانعدام أطره وغياب التقاليد التنظيمية عن اسلاكه، لكنه في الوقت نفسه صادر في معظمه وفي متنه عن بيئات مدينية مستقرة لا يشكل ارتباطها بالإسرائيليين إغراء يساعدها على إطلاق طموحاتها، وهنا لا بد من ملاحظة تتمثل في ان حال الاختراق التي شهدها «تيار المستقبل» (علي الجراح) حصلت في هامشه الريفي لا في متنه المديني. اما «القوات اللبنانية»، وهي أكثر المستهدفين بشكوك «حزب الله»، فهي من أكثر الاحزاب المسيحية تماسكاً وحذراً، وتدرك قيادتها ان احتمال الكشف عن عناصر منها مرتبطة بالإسرائيليين سيكون فرصة استهداف سياسي كبيرة لخصومها، وهذا يُصعب مهمة التجنيد وان كان لا يمنعها. اما الاستعداد السياسي للعلاقة مع الاسرائيليين، على ما يدعي خصوم القوات، فإذا صح وجوده فإن من يتولاه في حال وجود حزب متين التنظيم، ليس بأي حال من الأحوال شبكات أمنية واستخباراتية.