بعد وفاة نصر حامد أبو زيد يفارقنا محمد أركون. ماؤنا القليل أصلاً يصبح أقلّ، فيما يتكاثر من حولنا الجفاف. عمل محمد أركون طوال أكثر من نصف قرن على تقديم قراءة جديدة للإسلام. قراءة تستند إلى مرجعيات ومناهج علمية وتنطلق من الفكر النقدي العقلاني. وستظلّ أفكاره، حتى بعد رحيله، مدار بحث في الأوساط العلمية والجامعية، شرقاً وغرباً. لا شكّ في أنّ فرنسا كانت محطة مهمّة في تكوين محمد أركون المنهجي هو الذي جاءها من الجزائر لمتابعة تحصيله العلمي. كان من بين أساتذته المستشرق المعروف ريجيس بلاشير ومن بين أصدقائه مفكرون وعلماء اجتماع كان لهم الأثر في توجهات فكره النقدي وأدواته، ومن بينهم المستشرق والمؤرّخ الآخر كلود كاهين الذي ساهم في تجديد المنهج التاريخي للشرق الإسلامي، والفيلسوف بول ريكور وعالم الاجتماع بيار بورديو. ولقد اكتشف مع هذا الأخير معنى القراءة الأنتروبولوجية وطرائقها لمجتمع محدّد وكيفية بناء جهاز مفهومي جديد. ففي كتابه «الحسّ التجريبي» قدّم بورديو تصوّراً علمياً أنتروبولوجياً للثقافة وللحياة اليومية لمنطقة القبائل الجزائرية، أي للبيئة التي ولد ونشأ فيها أركون، وتعمّق في تحليل تلك البيئة الشفهية التي لا تملك ذاكرة مكتوبة. ضمن هذا المناخ العلمي، بدأ مشروع محمد أركون في تأسيس قراءته الجديدة للإسلام والتي لا ترتكز إلى الاجتهاد والتأويل وإنما إلى المنهج العلمي والفكر النقدي. ولا أظنّ أنّ هذا المشروع خضع إلى الآن إلى قراءة معمّقة في المجتمعات العربية والإسلامية، بل هو لا يزال محصوراً في بعض الأوساط الجامعية التي تبحث عن نوافذ أخرى وسط عالم يزداد انغلاقاً على نفسه. أما من جهة الوسط الثقافي الفرنسي (من المعروف أنّ معظم نتاج أركون كُتب باللغة الفرنسية، ونَقل القسم الأكبر منه إلى العربية هاشم صالح وكأنه جزء من نتاجه هو نفسه)، فلم يلتفت لنتاج أركون الذي تمحور حول نقد العقل الإسلامي، أوّلاً لأنّ هذا العمل، بحسب أركون نفسه، يتوجّه في المقام الأول إلى المسلمين أنفسهم، وثانياً لأنّ القراء الفرنسيين كانوا غارقين في «الإسلاميات الكلاسيكية»، ولاحقاً، بعد السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، في خطاب العلوم السياسية. أراد أركون أن يوسّع ميدان الدراسات الإسلامية ويذهب إلى دراسة الظاهرة الدينية ككلّ، أي أنّه انتقل إلى تقديم دراسة نقدية مقارَنة للأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. وذلك، في رأيه، يفتح آفاقاً جديداً لتدريس الإسلام ولفهم أعمق للثقافة العربية. ضمن مشروعه لنقد الفكر الإسلامي، تناول محمد أركون أيضاً مسألة فهم الحضارات واحترام الاختلاف، وانتقد الاستشراق الذي ينظر إلى الثقافات الأخرى بصفتها ثقافات غريبة. ودعا، انطلاقاً من نزعته الإنسانية المتأثرة بفلاسفة عصر الأنوار في فرنسا، إلى نبذ العنف والعمل على إرساء حوار عميق بين الحضارات لتفادي الصدامات التي تعيق النموّ والتقدّم وتعود بالأذى على الإنسانية جمعاء. يقول نيتشه: «اليقين سجن». في قراءته الفكرية وتحليله النقدي للعقائد، وقف أركون ضدّ كلّ أشكال السجون والجهل والعنف، وضدّ ما أسماه «السياجات الدوغماتية»، وذلك للخروج من عمى الأحكام الواحدة المطلقة والتحليق في رحابة الأسئلة الجوهرية بحثاً عن الحقيقة في أوجهها المختلفة.