من الصعب الحديث عن عمل للكاتب الألماني هاينر مولر (1925-1995)، من دون الحديث عن التاريخ والثورة والايديولوجيا وأزمات الإنسان والعصر. لم يعرف مولر رواجاً عربياً واسعاً باستثناء بعض الأعمال القليلة التي قُدّمت له في المغرب ومصر. ولا ندري ما سبب ابتعاد الكتاب والمخرجين العرب عن نصوص تجريبية معاصرة، مثيرة للجدل. وفي بحث بسيط على موقع «غوغل» بالعربية، نلاحظ ندرة المعلومات عن أهم الكتاب المسرحيين في ألمانيا المعاصرة. نقطة إيجابية تسجل للمخرج اللبناني عمر أبي عازار وفرقة «زقاق» المسرحية، لما بذلاه من جهد في تقديم مسرحية «هملت ماكينه 2» الاشكالية. ونقطة إيجابية أخرى تسجل أيضاً لجنيد سري الدين الذي استطاع أن يترجم النص ويقدمه بلغة رشيقة ومتينة. صرخة وسط الفراغ تنذر ببدء العرض. الصرخة تتحول الى صراخ، والصراخ الى نحيب. تشعر أن صوت أوفيليا (مايا زبيب) هو صوت الشعب، هو صوت عذاباته ومشاكله وآفاته. ضوء خافت كأنه ليل، يخترقه أربعة ممثلين. يلقي هملت (جنيد سري الدين) خطبة سوريالية، يبدو كمثقف ثوري فقد حلماً أو وطناً أو ربما يمر بانتكاسة فكرية. على المسرح تابوت ضخم، وكأنه رحم الأم، يدخله الممثلون ويخرجون منه أناساً جدداً، لا يشبهون ما كانوا عليه. العرض الذي قُدّم أمس في مسرح دوار الشمس في بيروت، أبرز الصراع ما بين البروليتاريا (أوفيليا) المفرغة من أي قوة أو من أي تفكير، والمثقف الماركسي (هملت) العاجز عن أي فعل. قد يحمل النص بعض الإسقاطات على واقعنا، خصوصاً أنه نص معاصر كتب بطريقة تجريبية، اشتهر بها مولر، فمسرحياته تدور حول مشكلات التطوّر الاجتماعي في ألمانيا، وتهدف الى نقد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتتعرض لبناء الاشتراكية... تصور «هملت ماكينه» تراجيديا الشيوعية في القرن العشرين، وهي مسرحية من سلسلة مسرحيات كتبها مولر تتناول وإن بطريقة مجازية أو غير مباشرة تاريخ ألمانيا وواقعها، مثل «المهمة» (1979) التي تعالج الثورة المستحيلة، و «كارتت» (1988) و «ساحل مهمل» (1982) و «حقل تحت المراقبة» (1984)، وفي هذه السلسلة خلاصة تجريبية مولر الحية في الخروج على الأنماط المسرحية السائدة، أو حتى النماذج الطليعية ممثلة ببيكيت أو يونسكو وجان جينه. والمميز في المسرحية أن كل جملة فيها تفتح آفاقاً جديدة للتفكير، في مزج بين التقنية والدراما. ووفق المخرج هنا في تكثيف النص وضبطه، ليفسح المجال أمام كل ممثل لتقديمه بطريقته الناضجة والحية. ويحاكي العمل بصفته محاولة لتلمس ملامح التراجيديا المسرحية المعاصرة، أزمة الإنسان في حاضر محاصر بكوارث ورثها عن ماض ممسوخ. إنها مأساة التاريخ، أو تراجيديا حاضر التاريخ. تنعى المسرحية المثقف الذي يريد أن يغير العالم وتنعى البروليتاريا الأوروبية، وتلعب «أوفيليا» في شكل خفي، دور الشعب الذي لا يمتلك خياراً أو تفكيراً، وإنما ردود فعل عاطفية، ويظهر في العرض تمزق عميق بين القول والفعل، بين النظرية والتطبيق، بين الفكر والشعار والواقع. يوحي فضاء المسرح بأن ثورة اندلعت، لكنها فشلت. المشهد سوداوي قاتم، رائحة موت تفوح في المكان، أزمات وصراعات فكرية وقتلى وذكريات بشعة، التابوت في نصف المسرح هو مقبرة للأفكار التقدمية، وكل سبل التغيير. في آخر العرض تنقلب الأدوار، لم تعد أوفيليا، أوفيليا، تتغير وتنتفض، لا تريد أن تبقى في أطراف العالم، أو تلك الرومنطيقية التراجيدية الحالمة، تعلن الثورة وتنطلق نحو الحرية. تقول أوفيليا: «هذه الكترا تتكلم. في قلب الظلام، تحت شمس التعذيب، الى عواصم العالم، باسم الضحايا (...)، أستعيد العالم الذي ولدته (...)، فلتسقط بهجة الخضوع، عاشت الكراهية، الاحتقار، الثورة والموت. عندما ستعبر غرف نومكم حاملة السكاكين، ستعرفون الحقيقة». يقول المخرج عمر أبي عازار أن «هملِت ماكينه 2»هي ثمرة بحث مسرحي أجرته فرقة «زقاق» منذ سنة على نص هاينر مولر. وتخلل فترة البحث ورشتا عمل في مركزي لانيمال أليسكينا و أزالا في إسبانيا (كانون الأول/ ديسمبر 2008)، ونتج منهما عرضان مفتوحان للجمهور تبين من خلالهما أسلوب العمل الذي تعتمده الفرقة في البحث والعمل على النص. ويضيف: «كان لترجمة النص إلى العربية دور فاعل في عملية الخلق التي اعتمدتها الفرقة». ويرى أبي عازار أن موقف المؤدي المسرحي تجاه تلك التراجيديا التي يؤدي على خشبة مسرحه شخوصها، يصبح موقفاً من تلك الشخوص نفسها، من المسرح وجمهوره... فمؤدي دور هملت هنا مثقل بتاريخ من الانتكاسات والهزائم. وبعد كل حرب سيحمل جسده ويواجه نفسه المتشظية في أدواره التي يؤديها على خشبة المسرح. موقفه ثورته، وإن كانت ثورة معطوبة أو «أملاً مخموداً»، فتبقى امتيازه الذي لا لبس فيه. قدّم المسرحية كل من دانيا حمود، لميا أبي عازار، مايا زبيب، هاشم عدنان وجنيد سري الدين.