ها هو الموسم التلفزيوني قد انتهى، أو بالأحرى انفضّ السيرك التلفزيوني الذي – للأسف الشديد – يُنصب في كل عام خلال الشهر الكريم. وكما يزداد الاستهلاك على الأطعمة والمشروبات خلال هذا الشهر المعظم، على رغم كونه شهر الصوم والإحساس بالفقراء والمساكين، على المنوال ذاته يزداد الاستهلاك على المشاهدة التلفزيونية. تشير غالبية الدراسات خلال السنوات الماضية إلى وجود زيادة في المشاهدة التلفزيونية خلال رمضان في حدود 30 في المئة عن معدلات بقية العام، التي عادةً ما تكون في المتوسط بالنسبة الى منطقتنا العربية في حدود 3 ساعات يومياً. وبذلك تصبح المشاهدة في رمضان في حدود 4 ساعات يومياً، فيما تظل معدلات المشاهدة هذه محدودة بالنسبة الى مجتمعات أخرى. سلبيات وقبل العودة الى سيرك التلفزيون خلال رمضان، لا بد من الإشارة إلى أن الوضع التلفزيوني في منطقتنا العربية يعاني – وللأسف الشديد أيضاً – من وضعية استثنائية سلبية أو غير متميزة. ففي معظم بلدان العالم تكون القنوات المجانية المتاحة لكل قطاعات الجماهير محدودة العدد، في حين لدينا في العالم العربي الآن أكثر من 600 قناة غير مشفرة. وما يزيد الطين بلَّة، أن غالبية هذه القنوات خاصة أو بالأحرى تدّعي كونها خاصة، على رغم انها لا تقوم على أسس اقتصادية صحيحة أو مبادئ تجارية سليمة، إلا النذر القليل منها، بل الأقل من القليل. الأمر الذي يجعل أكثر من 600 قناة غير مشفرة تتنافس على 3 ساعات تقريباً لجمهور قوامه 350 مليون نسمة. في كل عام، قبل حلول رمضان، يُروّج للسيرك التلفزيوني، خصوصاً في مجال الدراما والمسلسلات. وفي هذا العام تحديداً أُنتج نحو 120 مسلسلاً، غالبيتها عرضت خلال أكثر شهور العام رواجاً في المشاهدة، وبالتالي أيضاً رواجاً في الإعلان. وغالباً ما تستحوذ على الأقل 10 قنوات تلفزيونية فقط، من أصل 600 قناة أو يزيد، على النصيب الأعظم من معدلات المشاهدة الذي لا يقل عن 80 في المئة. وبالتالي أيضاً تحظى هذه القنوات بما لا يقل عن 80 في المئة من الإعلانات، فيما تعيش على ال20 في المئة المتبقية من المشاهدة والإعلانات القنوات الأخرى. ولكن، ماذا عن حال المشاهد الذي يفترض أنه الحلقة الأقوى في هذه المنظومة، نظراً الى كونه يملك جهاز التحكم في المشاهدة؟ مع افتراض حسن النية، لا بد أن يكون لدى المشاهد الوعي الكافي لاختيار الأفضل. وفي قراءة سريعة للمشهد التلفزيوني العربي خلال الشهر الكريم، نجد أن المسلسلات لا تزال تملك الحضور الطاغي، إذا استثنينا بعض البرامج الأكثر استفزازاً. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة الى الملاحظات الآتية: أولاً، كان لافتاً استرداد المسلسل المصري عافيته، شكلاً ومضموناً، مع استمرار الخلطة السحرية المعروفة والتوليفة المعهودة كما في «العار» و«زهرة وأزواجها الخمسة»، من دون أن ننسى بعض الأعمال المميزة التي أتت خارج الإطار المعتاد مثل «الجماعة» و«أهل كايرو» و«عايزة أتجوز». ثانياً، شهدت الدراما السورية تراجعاً نسبياً، باستثناء عمل أو اثنين على الأكثر، مثل «أسعد الوراق» و«وراء الشمس». ثالثاً، لا تزال الأعمال الخليجية رهينة للمبالغة وحريصة على الافتعال وتدور في دائرة التكرار والتركيز على الشكل على حساب المضمون. ولعل مسلسل «شر النفوس» و«ليلي» خير دليل على ذلك. يستثنى من هذا الأمر نسبياً «ليلة عيد» و«زوارة خميس»، لقوة المضمون والأداء والشكل. يعود هذا، لضعف التحضير الإنتاجي والإعداد الدرامي على رغم توافر الإمكانات المادية بشكل يفوق الإمكانات الإبداعية. وتظل المسلسلات المحلية في دول الخليج في شكل عام وفي بلد المنشأ في شكل خاص قادرة على التواصل في شكل أفضل مع المواطن العادي، إلا أنها لا تزال تعاني من الاستسهال و«الفبركة» واللعب على المضمون. ولولا مساحات الكآبة المضاعفة أو البهجة المفرطة لكان الوضع أفضل. أما بالنسبة إلى الدراما السعودية تحديداً، فهناك محاولات جادة، إلا أنها غير مستمرة، وغالباً لا تؤتي ثمارها مكتملة النضج بسبب الاستعجال أو الاستسهال. كما تغلب الهواية غير الموجهة في معظم الأحيان على الاحتراف. وعلى رغم وجود بعض المقاطع أو الحلقات القوية ضمن المسلسلات السعودية، إلا أنها محدودة، فلا نكاد نجدها إلا بين كل أربع أو خمس حلقات، ما يفقد المشاهد التزامه بالمشاهدة أو الثقة في العمل. تُضاف الى هذا كله مشكلة كبرى تتمثل في تسطيح العمل والإمعان في السذاجة. ولمزيد من الدقة نسوق ملاحظات حول الأعمال السعودية التي عرضت في رمضان. أولها أن المشاهد المحلي لم يعد رهينة لشاشته المحلية فقط. فبعدما كان ولاؤه لقناة معينة، انتقل الى برنامج محدد، ثم تجاوز ذلك في السنوات الماضية ليتحوّل الى حلقات من البرامج. أما الملاحظة الثانية فهي أن مسلسلات محلية عدة تبحر في تعميم الحالات الاستثنائية، أو على الأقل ظواهر اجتماعية منتشرة في مجتمعاتنا. وهذا أمر خطير قد يساهم إلى حد كبير في نشر أو انتشار بعض البوادر الهزيلة أو الحالات المرضية. أما ثالثة تلك الملاحظات، فهي عندما يلتقط المسلسل المحلي المضمون الجيد أو الفكرة الواعدة ولا يتعامل معهما بالمقدار ذاته من الاهتمام من حيث الشكل. ولمسنا ذلك كثيراً، بل في غالبية الحلقات الناجحة من معظم المسلسلات المحلية، ولعل أفضل الأمثلة على ذلك حلقة «أيام الأسبوع» في «طاش ما طاش» أو حلقة البطالة والسعودة والسيول في «سكتم بكتم». في حين نجد النقيض تماماً مع بعض المضامين الهشة أو الأفكار الضعيفة، حيث نرى جهداً ملحوظاً في الشكل، كما حدث، مثلاً، في القصة الهندية في «طاش ما طاش». إن كمية الهدر (كماً وكيفاً) في الأعمال الدرامية تنسحب أيضاً على الهدر في الطاقات والقدرات والإمكانات للمستثمرين الإعلاميين عاماً بعد عام، طالما أن المنتج الإعلامي لا يعامل على أسس اقتصادية واستثمارية سليمة، أو حتى فنية. ومن أهم هذه الأسس التقويم العلمي للأعمال التلفزيونية وعوائدها الاستثمارية في كل من المشاهدة والإعلان. ويستمر النزف في كل عام، بدعوى أن الإصلاح آت لا محالة، ولكن ليس الآن. وقد أحسنت وزارة الثقافة والإعلام السعودية في التصدي لنشر إحصاءات وأرقام غير مدققة أو مبينة على أسس غير منهجية عن معدلات المشاهدة التلفزيونية في المملكة، وتحديداً في رمضان، بعدما درجت العادة على تداول هذه الأرقام ونشرها خلال الأسبوع الأول من رمضان، وفي ذلك إهدار للجهود المبذولة والاستثمارات المقدمة لكثير من الأعمال الدرامية والقنوات التلفزيونية. ريادة هذه الدراسات لا تزال متاحة، لكنها هذا العام وزعت في نطاق متخصص. وغالبية هذه الإحصاءات والأرقام تؤكد استمرار ريادة بعض القنوات مثل «أم بي سي»، وهذا الأمر غير قابل للجدل، ولكن ليس على الدوام. حتى ولو تكرر هذا أعواماً عدة على التوالي فليس ضرورياً أن يكون الأمر صحيحاً بالنسبة إلى كل الأعمال. ذلك أن دوام الحال من المحال كما يقول المثل. فكما استعاد التلفزيون السعودي بعضاً من قدرته على المنافسة، أو في بعض الأوقات، برزت قنوات أخرى مثل «روتانا خليجية» و«أبو ظبي الأولى» على قائمة أفضل قنوات أو برامج المشاهدة، ما يؤكد ضرورة وأهمية المنافسة في تقديم كل ما هو أفضل لكل من المشاهد والمعلن على حدٍ سواء. ولعل إيقاف نشر الإحصاءات والأرقام غير المدققة يحسب بلا شك لوزارة الثقافة والإعلام في التصدي لدورها كمقنن أو مشرع للتنظيمات المهنية واللوائح الإعلامية التي تنظم آليات سوق الإعلام والإعلان في المملكة. ولكن هذا الأمر مجرد خطوة إيجابية على الطريق يجب أن تتبعها خطوات أهم وأقوى مثل الشروع في تنظيم أساليب تقنية متطورة لقياس معدلات المشاهدة وتنفيذها، كما هو متعارف عليه عالمياً. وقبل ذلك كله لا بد من تشكيل لجنة مهنية وطنية أو هيئة سعودية متخصصة للإشراف على دراسات معدلات المشاهدة التلفزيونية، على أن تشمل الأطراف ذات العلاقة. ونأمل بأن تؤتي الجهود الحثيثة في هذا المضمار ثمارها الطيبة قبل رمضان المقبل تفادياً لمزيد من اللغط والمغالطات في وسائل الإعلام، أو حتى تفادياً للتلاعب بمصائر الآخرين تحت وطأة التقنية غير المقننة أو الضمائر الضعيفة. * أستاذ وسائل الإعلام المساعد، جامعة الملك عبد العزيز في جدة