مقارنةً بعدد الشعراء الذين يسعون في شكلٍ ثابت، وإن بنتائج متفاوتة، إلى تجديد شكل القصيدة (أو النص) وخطابها، يبقى عدد الروائيين المجدّدين في ميدانهم قليلاً. وهذا ما يدفعنا اليوم إلى التوقف عند رواية المترجم الفرنسي الكبير بريس ماتيوسون التي صدرت لدى دار P.O.L. الباريسية تحت عنوان «انتقام المترجم». فبعد قيامه بنقل نحو مائتي رواية أميركية الى الفرنسية يعود بعضها إلى أسماءٍ كبيرة مثل جاك كيرواك وبول بولز وجيم هاريسون وبوكاوسكي، ها هو اليوم يطلّ علينا بنصٍّ روائي مثير يتألف حصراً من... ملاحظاتٍ في أسفل صفحات الكتاب! طبعاً، سبق أن شاهدنا روائيين كباراً يقومون بترجماتٍ غزيرة، مثل فاليري لاربو الذي ترجم جيمس جويس وبول كلوديل وأندريه جيد وسواهم، ولكن أن يتمكّن مترجم من خطّ روايةٍ تعيد النظر بعبقريةٍ كبيرة في شكل هذا النوع الأدبي وتقنياته، هو أمرٌ غير معهود، وبالتالي مثيرٌ للاهتمام، خصوصاً أن المترجم يرفع في نصّه راية الانتقام. أوّل ما يلفت انتباهنا في هذه الرواية هو تلاعُب ماتيوسون داخلها بقوانين القراءة المعهودة وفي الشكل المعتمد عادةً في نصٍ روائي مترجم. ففي هذا الأخير، ثمّة دائماً خطٌّ يفصل بين رواية الكاتب (في الأعلى) وملاحظات المترجم (في الأسفل) التي من المفترض بها أن تنوّر القارئ أو أن تشير إلى صعوبةٍ في الترجمة، وتقودنا إليها نجمة طباعية (*) داخل النص المترجَم. أما رواية ماتيوسون فتقع أحداثها تحت الخط المذكور وتتم عملية سردها على لسان راوٍ-مترجم طريف قرر حذف النص الروائي الذي هو في صدد ترجمته لمصلحة ملاحظاته الغزيرة في أسفل الكتاب على هذا النص. ويتبيّن لنا من خلال هذه الملاحظات أن الرواية التي يعمل الراوي-المترجم على نقلها إلى الانكليزية تتحدّث بدورها عن مترجم شاب من نيويورك يدعى دايفيد غراي يعمل على ترجمة رواية بعنوان (N.D.T)، أي «ملاحظات من المترجم»، خطّها كاتب فرنسي معروف يدعى أبيل بروت. إذاً رواية داخل رواية، أو نصٌّ روائي فريد من نوعه يتم فيه استثمار تقنية الدمج (emboitement) في شكلٍ فكاهي ومرح، وتوظيف مراجع أدبية كثيرة في شكلٍ حاذق وإيحائي يعكس ثقافة ماتيوسون الواسعة ومهاراته الكتابية. ولعل صعوبة ولوج هذا النص والجهد الذي يتطلّبه الإمساك بخيوط حبكته المعقّدة وبخطوط تصميمه الفريد هما اللذان أبعدا النقّاد عنه وحالا دون نيله الاهتمام الذي يستحقه حتى الآن. فقراءته تتطلب منّا تركيزاً كبيراً، وأحياناً عودة إلى الوراء وتسجيلنا، بدورنا، ملاحظات على هامش صفحات الكتاب للتقدّم داخله. أما مضمونه المفكَّك فيمكن تلخيصه على النحو الآتي: راو يعمل مترجماً، مثل ماتيوسون، يقوم منذ الصفحات الأولى بعملية تمرّدٍ واسعة النطاق ضد النص الروائي الذي يعيش من ترجمته ويؤمّن له المال الكافي لدفع إيجار منزله ومصاريف عشيقاته. ولاحتقاره كاتب الرواية الذي يبقى مجهولاً حتى النهاية، يعمد إلى حذف نصّه وإلى تطوير ميدانه الخاص، أي المساحة السفلية المخصّصة للمترجم بحيث يسترسل في التعليق على هذه الرواية ثم في تدميرها من خلال عمليات بترٍ وتشويهٍ وخيانةٍ لا تحصى، محافظاً خلال ثلثي الكتاب على قاعدة واحدة، قاعدة توزيع الأدوار واحتلال صفحات الكتاب، أي المترجم وملاحظاته في الأسفل، والكاتب وروايته في الأعلى، وإن كانت هذه المساحة فارغة لاهتمام الراوي-المترجم حصراً بعملية الهدم السائرة. لكننا نتمكّن من تشكيل فكرة دقيقة عن هذه الرواية، عبر ملاحظات هذا الأخير الغزيرة حولها، فنتعرّف جيّداً الى شخصيّتيها الرئيسيتين، أي الكاتب أبيل بروت ومترجمه دايفيد غراي، كما نتعرّف الى طبيعة العلاقة التي تربطهما بسبب مشروع الترجمة بينهما، ثم الى الأسباب التي أدّت إلى تدهور هذه العلاقة في شكلٍ خطير، كتنافسهما على عشق الشابة الفاتنة دوريس، سكرتيرة بروت، ولكن أيضاً عجرفة هذا الأخير وتطلّبه الجائر من مترجمه، من منطلق موقعه ككاتب. في مقابلة أُجريت معه حول عمله كمترجم، قال ماتيوسون: «أي محاولة لإنجاز ترجمة ثقافية دقيقة تتطلّب منّا حشو النص بملاحظات سفلية تتخطّى حجمه بكثير وتدفعنا إلى التوقف عن الترجمة من أجل تدوين هذه الملاحظات!» وفي هذا السياق، تشكّل روايته تطبيقاً راديكالياً وطريفاً لهذه الحقيقة يبلغ قمّته في الثلث الأخير منها حيث يعبر الراوي-المترجم الخط الذي يفصل فضاءه عن فضاء الرواية الغائبة ويغادر موقعه كمترجم لاحتلال موقع الراوي العليم والكلي السلطة. ومثل لويس كارول ووُدي ألِن (في فيلم «زهرة القاهرة القرمزية») قبله، يتطلب ماتيوسون هنا من قارئه قبول فكرة عبور الراوي إلى داخل روايته والتقائه بإحدى شخصياتها، الشابة دوريس، وتغييره مضمون الرواية لهذه الغاية عبر إلغائه شخصية أبيل بروست بضربة إصبع على حاسوبه... قد يظن بعضهم، من طريقة عرضنا لهذه الرواية، أن هذه الأخيرة مجرّد اختبار شكلي مثير على حساب البُعد الروائي فيها. لكن هذا غير صحيح، فالرواية غنية بالأحداث المفاجئة والهجمات المخاتِلة والخيانات والتجليات والأحلام الهاذية والاستيهامات والمشاهد الجنسية والمعابر السرّية والفخاخ الأدبية والواقعية المثيرة بحدّ ذاتها، وإن كان هدف ماتيوسون من استخدامه جميع هذه العناصر-الحِيَل هو أيضاً وخصوصاً، إلقاء ضوءٍ كاشف على ما يربط المترجِم بكاتبه والترجمة بالنص الأصلي.