على رغم النتائج والتداعيات السياسية المباشرة التي حدثت خلال الأعوام التسعة التي مرت منذ وقوع أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بانهيار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك إثر تفجير إرهابي اتهمت حركة «طالبان» بتنفيذه وتمثلت في إعلان الولاياتالمتحدة الحرب على الإرهاب وقيامها باحتلال أفغانستان نهاية عام 2001 ومن بعدها العراق عام 2003، وما طرأ من تغيرات استراتيجية على الخريطة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن إعادة قراءة تلك الأحداث من زاوية فكرية ومعرفية لا تحررها بالطبع من سياقاتها السياسية، بل يمكن أن تمثل من ناحية أخرى أداة لتفسير أو فهم طبيعة العلاقة المعقدة التي تربط أميركا بالديكتاتوريات العربية من زاويتي النشأة التاريخية والتعاطي الآني. وتجدر الإشارة هنا الى كتاب مهم للمستشرق البريطاني الشهير برنارد لويس بعنوان «ما الخطأ الذي حدث؟ الصدمة الغربية والرد الشرق أوسطي». وتتمثل أهمية هذا الكتاب في كون مؤلفه عرف بصفته منظّراً فكرياً للحرب الأميركية على الإرهاب، كما انه، بحسب ما أشار في مقدمته، متصل بهجمات 11 أيلول، إذ انه يبحث في ما حدث قبلها وفي التتابع الطويل والنماذج الأوسع للأحداث والأفكار والاتجاهات التي أنتجت تلك الهجمات. فإدراك العرب والمسلمين حجم الفجوة الحضارية بينهم وبين الغرب المتقدم، كما يؤكد لويس، شكّل الركيزة الأولى لصعود الأصولية الإسلامية التي تحاول أن تنقل ما يحدث من عمليات «انتحارية» في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى بقع ومناطق أخرى من العالم. فتوقيع الدولة العثمانية العام 1699 على اتفاقية «كارلوويتز» التي نصت على اعترافها للمرة الأولى بالهزيمة أمام قوى أوروبية، بولندية وروسية ونمسوية، وما تلاها من هزائم عسكرية تلقاها المسلمون على يد القوى الغربية، عمّق السؤال لدى العرب والمسلمين عن ماهية الخطأ الذي حدث من جانبهم. ومع بدايات القرن السابع عشر واستمرار الانتصارات المسيحية على المسلمين والتي بلغت ذروتها بغزو نابليون لمصر عام 1798 أصبح هناك تركيز على الخارج، وتحوّر السؤال إلى: ماذا يفعلون هم؟ وماذا يمكن أن نفعل نحن لاستعادة تفوقنا القديم؟ إلا أن المجتمعات الإسلامية في الوقت ذاته وعلى رغم ما أصبح لديها في الوقت الراهن من صحف وأحزاب وبرلمانات لم تبلغ مرحلة الإيمان بقيم التسامح والحرية وقبول الآخر، ومن ثم فإن شعورها بالفجوة الحضارية بينها وبين الغرب من الناحية الموضوعية ورفضها تلك الفجوة على المستوى الجمعي والشعوري أدى في شكل مباشر إلى صعود الأصولية الإسلامية العنيفة والمتشددة في نظرتها ومواقفها تجاه الغرب والتي جسدتها أحداث أيلول في شكل واضح وصريح. ويلاحظ أن التفسيرات التي وضعت لأحداث 11 أيلول وعلى رأسها أطروحة لويس، اندفعت إلى إدانة العرب والمسلمين ووصمهم بالتخلف الحضاري وغياب قيم الديموقراطية والحرية والتسامح عن مجتمعاتهم، مغفلة دور الاستعمار الغربي بصفته متغيراً أساسياً ساهم بكل تأكيد في بروز تناقض في الغايات والأساليب التي تحكم العلاقة بين الغرب وأميركا من جانب والنظم الديكتاتورية في العالم العربي من جانب آخر، متذبذبة بين الصدام المباشر تارة والتواطؤ تارة أخرى، ما غيّب قيم الحرية والتسامح وأفرز طابعاً عدائياً حكم نظرة العرب والمسلمين تجاه الغرب. فقد ساهم الاستعمار من زاوية تاريخية في التأسيس لشرعية النظم المستبدة في العالم العربي، فمصر على سبيل المثال عرفت نظاماً ديموقراطياً برلمانياً في الفترة ما بين اندلاع ثورة 1919 وقيام ثورة تموز (يوليو) 1952، إلا أن الاحتلال البريطاني لمصر واتهام القوى السياسية التي شكلت الدعامة الأساسية لتلك المرحلة وعلى رأسها حزب الوفد بالتحالف مع الاستعمار، وفّر الذريعة الملائمة لنظام تموز لضرب تلك التجربة. كما ساهم التحالف الغربي بقيادة أميركا مع إسرائيل طوال الخمسينات والستينات في ترسيخ الطابع الديكتاتوري والشمولي للنظام الناصري الذي رفع شعارات التحرر الوطني ومواجهة الاستعمار بصفتها بدائل يمكنها أن تعوض الجماهير عن الغياب الكامل للديموقراطية والحرية، كما ساهم الاستعمار على مستوى اللحظة الراهنة في تعاطي الولاياتالمتحدة الأميركية بمنطق براغماتي مع قضية الديموقراطية في العالم العربي، إذ إن الضغوط التي تمارس على الكثير من النظم الديكتاتورية في عالمنا العربي والتي ازدادت بعد 11 أيلول من أجل إقرار الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، وُظّفت للضغط على تلك النظم من أجل الحصول على ترتيبات أمنية لتسهيل العمليات العسكرية الأميركية في المنطقة أو لحفظ أمن حليفتها إسرائيل... ما يعنى إجمالاً أن الصدام بين المسلمين والغرب والذي شكلت أحداث أيلول لحظة ذروته، يشكل انعكاساً للصراع الجدلي بين المنطق الكولونيالي الذي يحكم الممارسة السياسية الأميركية تجاه العالم العربي وبين الدور الرسالي الذي يسربل خطابها السياسي والحضاري الموجه له ولقادته. وهو ما تعكسه أطروحات برنارد لويس ومواقف الولاياتالمتحدة في أعقاب أحداث أيلول، مؤكدة مقولة الناقد والأكاديمي الأميركي - الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد بأن المصالح السياسية تصنع أعرافاً ثقافية... * كاتب مصري.