تولي المنظومات الجهادية اهتمامها الأول بخسائر العدو، البشرية والمادية، يسودها الاعتقاد أن قنصاً من هنا، وعبوة من هناك، بشائر نصر قادم لا محال، تستدعي التبريك والتهليل، وتستوي دلائل قاطعة على صحة النهج وفاعلية الأسلوب. وفي مدارها، ينشط مروِّجون كسبة، منهم علمانيون أصابهم الحَوَل ويساريُّون تعطلت محركات مركباتهم، يحلو لهم تعداد القتلى، أوكلوا أمر هزيمة الإمبريالية لحملة السلاح، مراهنين على انبعاث الفينيق الثوري من تحت الدمار. على عكس هذا المنوال، وبلا أدنى مؤاساة أو تحسس بوجع المواطن العادي، تهمل هذه المنظومات عامل المجتمع الذي تريد إنقاذه وخلاصه، فتمعِن في تمزيق نسيجه واستعداء شرائح كاملة من أبنائه بذريعة تطهيره من العلائق والعمالة والفساد. وحين تتساقط الضحايا البريئة، يُعزى مردّ مصابها الى ضرورات الكفاح، وتركن زاوية الخسائر الجانبية والضريبة العفوية المتوقعة، جرّاء مكر المعتدي الأجنبي وتخفيه وسط الإخوة هذا إذا لم تشفع بمُستحدث مصطلحات كالحادث الفردي والنيران الصديقة والخلايا المُعشعشة الواجب اقتلاعها، وقطع دابر الفتنة المذهبية، وسواها من عبارات التبرير والمنطق المجوّف المشبع بمثالية المقاومة وأخلاقية حراس العقيدة وسمو المرامي. تكثر الشواهد على جسامة المنسيات البديهية المسقطة من مُفكرة الجهاد الممارس من أفغانستان الى الأطلسي ، مروراً بالقفقاز، في التقويم الأيديولوجي كما في القيمي الاعتباري والأداء. فلئن كانت معايير الصحوة، بجناحيها المذهبيين ومتفرِّعاتهما وأذرعهما، تختلف في المرجعية والمثال، فهي تجمع وتجتمع على مناهضة المفاهيم الحقوقية النابعة من رحم التنوير والحداثة والمبادئ المتصلة بشرعة حقوق الإنسان وبشبكة الأمان التي رسمت معالمها أسرة دولية سائرة الى مزيد تفاعل وتعاون، إثر حربين كونيّتين مدمّرتين واجتثاث الشمولية التوتاليتارية من معظم بقاع المعمورة. وليس في ثغرات القانون الدولي المتحرِّك راهناً، ولا في المسافة التي تفصله عن الكمال، ما يُخوِّل ادّعاء إصلاحه بالقهقرة والعودة الى الوراء، والعمل الدؤوب لهدمه وتدمير أعرافه ومواثيقه على قاعدة خلاصية غيبية عينها على النفوذ والسلطة، تؤول الى الوعد بالجنة، وباستباح الدم وتغييب شخصية الفرد، ويُترك للناس هامش الخيار بين الإذعان وتلقّي الصدمات. إن معدن البدائل المطروحة، على ما يسوقه الجهاديون، مخصّب بالنار الحارقة، وأحكامهم قاطعة لا تقبل المراجعة، منزلة من لدن الخالق. هل ثمّة وجود للشعب واعتراف بحقوقه في عرف الجهاديين؟ على الرغم من كثرة الاحتجاج بالأمة والغيرة على الأهل، يتبدَّى جلياً أن تصدير الحركات الجهادية واستبطانها مواقع وبُؤر المواجهة والنصرة، قلَّما يأتلف مع جسم الشعب، المأخوذ بالمعنى الشامل، مستكينةً إلى بيئة حاضنة كافية بذاتها، تحظى بأبلغ العناية وتستأثر بالشرف والمروءة والرفعة. يعبِّر توصيف شعب المقاومة مفهمياً عن هذا الاختزال، يقابله نعت طالبان وشبكة القاعدة وأهل الحق والإمارات المغاربية وحركة حماس وأتباع الحوثيّة في غير مكان، جميعهم أسماء على مسمّيات تختصر الشعب بجمهور موالٍ مجتزأ من المكون الشعبي العام، وتنفر من قالب المجتمع المدني وحقوقه. أما الذي يقف خارج المدار، فلا ينعم بالمدلول القيمي، مقامه الهوامش ونصيبه الكم المُضلّل القابع في الجمود، إلى أن يروّض ويلحق بالترغيب أو بالاستتباع، تحت طائلة التخوين والعزل والإسكات. تلك عوازل المصنّفات، يجاهر بها من لا يتوسل القناع في سعيه الى توكيد مقدرته الصدامية، ويموِّه عليها ظرفياً جامع السياسة والسلاح، المتطلع الى القبض على السلطة والإفادة من حلفاء طفيليين. دعونا نعرِّج على المنابر الدعوية وأساليب التعبئة ومحتوى الأدبيات والنشرات. فالمعلوم والمشهود يومياً يفيد بتوسل جماعات الجهادية، على مختلف مشاربها وولاءاتها، دور العبادة والملحق بها من أماكن عزاء وحشد في المناسبات الدينية، منابر محصّنة تتلى فيها الخطب الدعوية وتنقل من خلالها التوجيهات. الأصل إيصال الرسالة في قالب مقدّس محشوّ بمقتطعات فُقهية استنسابية، والداعية مُعمَّم أصيل أو شيخ نصَّبَ نفسه وانتحل صفة، بحيث يمتاز المتكلّم عن المتلقّي وتختلط السياسة بالإرشاد. والحاصل تعبئة فئوية قوامها جمهور صافي الانتماء، منه تستمد القوة وبه ينحصر التعاهد. عبر هذه الحلقة، تنبثق معادلة البيعة للقائد والفعل للملتزم المنضوي في التنظيم او النصير الظهير، ويوقف صنع نمط الحياة وتقرير الجائز والمرفوض، على إرادة بيئة مصغرة حاضنة تحظى بأرفع مقام وبفائض مزية وحق سيادي لا يُشاطرها فيه بنيوياً أي شريك أو فريق. وعليه، تضحي المؤسسات الدستورية، إن وُجدت في الجغرافيا المكانيّة وبسطت الدولة قوانينها وآلياتها نظرياً على مساحة الوطن، مجرد زوائد، جلها شكلي، وسلالم تسلق احتياطية تستخدم عند الاقتضاء، وتُركن جانباً عند المضايقة وتقييد الحركة وإدّعاء الإمساك بالقرار. كذلك يُزدرى بوسائط الحياة العادية، من أمن وعمل وكسب معيشة واستقرار. وما العبرة المستخلصة، إلاّ أن الدورة الحقيقية تجري بعيداً من منطوق المكوِّنات الوطنية ووظائف الهياكل الديمقراطية، لأن التفويض التمثيلي عبء مضاف، رقمي الطابع، لا يوازي أو يقارن بالنوعي المختلف المتصل بالمقاومة، أيَّاً كان مبلغه العددي في المحافل. للضرورات أحكام، ورأس الضرورات لدى الجهادية النظامية المقتدرة ترتيب الأدبيات المدعوة للخروج على الملأ وتلوين الخطاب، بخلاف المجموعات المعزولة العاملة خبط عشواء. ولنا في لبنان، على وجه التخصيص، النموذج الأنجح في هذا المجال، إذ يعمد حزب الله الى التورية والايحاء، ويحسن استخدام الأقراص المُهدئة حيناً، كما يترك الكلام الصريح الجاف لمقتضيات المواقف المفصلية كلما رأى في ذلك منفعة وتدبيراً لا بُدّ منه. غير أن اللافت، في جميع المحطات، مقاربة الحزب لموضوعة الجمهورية، أو بالأحرى خلوّ قاموسه من ذكرها، واستطراداً الإحجام عن معاملة اللبنانيين كمواطنين. فبين شعب المقاومة والأمة، يضيع الشعب كمحصلة أبناء الوطن الواحد المشترك في إطار دولتي كياني جمهوري يسمح بالتنوّع والاختلاف... وإذ لا يُعقل إيراد هذا الامتناع في خانة السهو، أو ردّه الى تفضيل لغوي، يتبين القصد الأساس، ألا وهو إنكار مزدوج للتقوقع في كيان ضيِّق، وفي الوقت ذاته التنصّل من تبعات ترجمة الإرادة الشعبية وفق النسق الجمهوري. فخلا ثلاثيّة الجيش والشعب والمقاومة، لا يُلحظ الشعب في التوليفات النظرية والاستشهادات بحشود الضاحية والأهل والصابرين والصامدين، حتى ان الفصل بين الشعب والمقاومة لدليل على ثنائية كيانية تحشر الشعب في وظيفة مساندة، ولا تعطيه موقع المرجع الأساس. فالشعب لا وجود له في ذاته الا مقترناً بالمقاومة. ولإشعار آخر، سيتقدم الحزب صاحب الفعل على السند المدعو للدعم، الى أن تنقلب الأوضاع في المنطقة، وترسو على صيغة تأتمر بالمرشد أو تعود إلى جمهورية برلمانية تجسِّد إرادة الشعب. * كاتب لبناني