ربما هي حرارة الجو القائظة، أو انقطاع التيار الكهربائي الذي يجعل البقاء في البيت أشبه بالجلوس داخل علبة سردين معرضة للشمس، وقد تكون إجازة الصيف الطويلة التي تستنفد مع نهايتها كل ما يمكن ممارسته من أنشطة وترفيه، أو أنه شعور حقيقي بأن هناك ملايين البشر الذين يستحقون قدراً ولو قليلاً من التعب ومبلغاً ولو ضئيلاً من المال لمساعدتهم على مواجهة شظف العيش. بعض هذه الأسباب، أو كلها هو ما أدى إلى بزوغ ظاهرة إيجابية بين الشباب والشابات المصريين هذه الأيام، زادها الجو الرمضاني حماسة وانتشاراً حتى كادت تصل إلى سمة تجمع بين كثيرين من شباب الطبقة المتوسطة وما فوقها. لم تعد نشاطات الخير في رمضان تقتصر على بضع جنيهات يدسها من يملكها في يد من يحتاجها، بل تطورت الأمور حتى أصبحت أعمال الخير الرمضانية امتداداً لمنظومة قوية ومتنامية من المشاركة المجتمعية الشبابية في التخفيف عن كاهل فقراء المصريين. فالكم الهائل من الجمعيات والمؤسسات الخيرية والتنموية التي ذاع صيتها خلال السنوات القليلة الماضية تحولت في فترة وجيزة إلى ما يشبه مؤسسات قوية قادرة على مساعدة المحتاجين، بدءاً من جمع التبرعات وتوظيفها لمد شبكات مياه الشرب والصرف الصحي، مروراً بتوفير الكتب المدرسية ومجموعات التقوية لأبناء الأسر المحرومة، وانتهاء بتوزيع الأغذية وملابس العيد. سارة (20 سنة) طالبة في الجامعة الأميركية في القاهرة أمضت العطلة الصيفية في جمع التبرعات لاستخدامها في شهر رمضان لشراء المواد الغذائية وتعبئتها في حقائب وتوزيعها على سكان المناطق الفقيرة في القاهرة الكبرى. وتكللت هذه الجهود الصيفية في شهر رمضان الذي نجح خلاله نحو 14 نادياً طلابياً لخدمة المجتمع في توزيع آلاف الحقائب الرمضانية التي تحوي أغذية وملابس العيد على آلاف الأسر. مثلاً نجح نادي «متطوعون في الخدمة» في توزيع 6300 حقيبة طعام على الأسر الفقيرة، بالإضافة إلى الوجبات الساخنة التي يتم إعدادها وتوزيعها يومياً على المحتاجين في حي ميت عقبة الشعبي. ووزع الطلاب من أعضاء نادي «المساعدة» 1270 حقيبة رمضانية على الأسر في حي مصر القديمة، بالإضافة إلى ثمانية آلاف وجبة إفطار يوزعها أعضاء النادي على المحتاجين طوال شهر رمضان. ويقول رئيس النادي الطالب طارق عادل إن نشاط النادي «لا يهدف فقط إلى توزيع الغذاء على الأسر الفقيرة في رمضان، ولكنها فرصة طيبة للطلاب أن ينضموا إلى النادي ويشاركوا في هذا النشاط الرمضاني الذي يطلعهم على وجه آخر للحياة في مصر ربما لا يعرفه البعض». ويبدو أن التعرف إلى عوالم أخرى تعيش بموازاة تلك الحياة لكنها غير مرئية لها، هي الفائدة المضافة لنشاط هذا الشهر. علي حامد (16 سنة) عاد لتوه من معسكر شبابي في فرنسا وأسبانيا تكلف بضع آلاف من الجنيهات، وكانت ضمن شروط المعسكر أن يعود الجميع إلى بلدانهم ويقوموا بعدد من نشاطات الخدمة المجتمعية. فاتفق علي وزملاؤه على أن يشاركوا في كل يوم أربعاء في نشاط خيري يقام في «القرية الفرعونية» (مزار سياحي في محافظة الجيزة) لمصلحة مجموعات من الأيتام. يقول: «كانت المرة الأولى التي أقابل فيها أطفالاً بهذه المواصفات. صحيح أنني أعرف أن هناك فقراء ومحتاجين، لكن أن يكون هناك أطفال تربوا من دون أب أو أم ولم يشعروا يوماً بمعنى أن تكون لك أسرة وسرير نظيف تنام عليه ووجبات مضمونة تقدم لك، فقد كان ذلك هزة عنيفة لي. لكن الأعنف منها كان لقائي مع الأيتام المعوقين الذين جعلوني أشعر بأنني كنت شخصاً تافهاً من قبل لاقتصار اهتماماتي على مقابلة أصدقائي، ولعب التنس، وتمضية الوقت على فايسبوك». وإذا كان «فايسبوك» مضيعة للوقت أحياناً، فإنه يحمل إيجابيات أيضاً. فعبره توصلت سلمى منير (20 سنة) إلى مجموعة قررت تنفيذ نشاط رمضاني انساني. فكل من لديه أقارب أو معارف من المسنين الذين يقيمون وحدهم يبلغ عن اسمه ورقم هاتفه وعنوانه، وتتولى المجموعة تجهيز وجبات إفطار ساخنة وتوزيعها على كبار السن مع تناول الإفطار معهم. تقول: «نحن نتصل بهم بالطبع لنستأذنهم، وفي حال وافقوا نتفق معهم على اليوم المحدد ونزورهم قبل الإفطار بوقت قصير ومعنا الوجبات الساخنة التي نتناولها معهم ونتجاذب أطراف الحديث. والحقيقة أنني اكتشفت أن الفائدة متبادلة، بل لا أبالغ لو قلت إننا كشباب وشابات نستفيد من هذه التجربة أكثر مما يستفيد منها كبار السن. فهم يسهبون في الحديث عن خبراتهم وذكرياتهم عن السياسة والدين والمجتمع والتي تفيدنا كثيراً». فائدة أخرى يؤديها شباب كثر في شتى أرجاء مصر: يتفق أبناء الحي الواحد أو مجموعات من الأصدقاء على شراء كميات من التمر وزجاجات المياه المثلجة، والوقوف بها عند الطرق الرئيسية والتقاطعات التي عادة تشهد حالة من الشلل المروري وقت الإفطار. ويوزع الشباب المياه والتمر على سائقي السيارات وركابها، بل وعلى باصات النقل العام وسائقيها وركابها ممن أجبرتهم ظروف عملهم وأحوال المرور المستعصية على قضاء وقت الإفطار في الشارع. وبغض النظر عن انتماء الشباب لجمعيات خيرية أو مؤسسات أو نواد طلابية تكثف عملها ونشاطها في خلال شهر رمضان، أو اتفاقهم مع بعضهم البعض على القيام بأعمال تعكس مقداراً كبيراً من مشاعر الخير والانتماء والرغبة في المشاركة، وجميعها سمات طالما وجد الشباب المصري نفسه متهماً بوأدها، يؤكد واقع الحال أن هذه السمات على قيد الحياة وبصحة جيدة، وإن كانت تتوارى بعض الشيء عن الأنظار بقية أشهر السنة.