أدخل الاشتباك الواسع الذي وقع ليل أول من أمس بين «حزب الله» و «جمعية المشاريع الإسلامية» (الأحباش) لبنان والأوساط السياسية فيه، فضلاً عن الناس عموماً، في حالة من القنوط والقلق والمخاوف من أن يكون الشارع اللبناني ولا سيما الإسلامي دخل مرحلة جديدة من اللااستقرار والصدامات المسلحة بين المتنافسين على الشارع بسلطة السلاح غير القابل للضبط والانضباط، والمعرّض للفلتان في أي لحظة حتى لو بدأ أي صدام نتيجة «إشكال فردي». فالمواطن العادي، والوسط السياسي، خبِرا جيداً معنى عبارة «الإشكال الفردي» التي تستخدم في مثل حالة الاشتباكات الواسعة التي حصلت أول من أمس في مناطق برج أبي حيدر، وامتدت الى مناطق البسطا والنويري في العاصمة وإلى أحياء لم تنتبه وسائل الإعلام الى اتساعه نحوها مثل بربور ورأس النبع وغيرها من المناطق التي شهدت ذيولاً لتلك الاشتباكات وهجمات متبادلة بقيت أضرارها محصورة قياساً على المناطق الرئيسة التي شهدت جبهة الحرب وخلّفت قتلى وجرحى وحرائق وأضراراً كبيرة في الممتلكات والأرواح. ولا يأخذ المراقبون السياسيون بعبارة الإشكال الفردي هذه بل تقفز الى أذهانهم وفي سرعة الاستنتاجات السياسية لخلفيات وأبعاد ما حصل، وأبرزها: 1- ان القاعدة التي لا رد لها هي ان التنافس بين التنظيمات المسلحة على السلطة في الشارع، لا يمكن إلا أن ينتج صدامات حتى بين مسلحي الخط السياسي الواحد، وسط عجز قيادات أي فريق عن ضبط عناصره وعن لجم فلتان السلاح في الأحياء. فالسلاح يأكل حامليه من أي جهة أتوا ولو كان تحت شعارات كبرى مثل الدفاع عن لبنان في وجه العدوانية والأطماع الإسرائيلية، إذ انه في ظل شعارات كبرى من هذا النوع، مثل الدفاع عن المقاومة الفلسطينية وعروبة لبنان اشتبك الحلفاء في المناطق الإسلامية في الثمانينات وحولوا شوارع العاصمة الى ساحات حرب ومن لا يذكر الصدامات بين «المرابطون» والحزب «التقدمي الاشتراكي»، وبين المرابطون و «القوميين السوريين» وبين الاشتراكي و «أمل»، ثم بين الأخيرة و «حزب الله»، وبين الأخير وبين الحزب «الشيوعي»... إذ انجرت قيادات تلك التنظيمات الى منافسات مسلحيها على النفوذ. وكذلك في المناطق المسيحية حيث ارتكبت مجازر، تحت شعار الدفاع عن السيادة ومواجهة الغرباء والمسلحين الفلسطينيين، بين أبناء الخندق الواحد في الصفرا والأشرفية وجبيل، ثم المواجهة بين الجيش بقيادة العماد ميشال عون و «القوات اللبنانية»، والتي دمرت المناطق المسيحية مادياً وسياسياً ونفسياً، فيما الهدف كان: الأمر لي. وفي اعتقاد المراقبين السياسيين ان حالة «حزب الله» مع انتشاره بالسلاح في الأحياء، لن تشذ عن هذه القاعدة في العلاقة مع تنظيمات حليفة في الحقبة الجديدة التي يمر فيها لبنان. فإذا كان إشكال الثلثاء فردياً، فإن اتساعه بهذه السرعة الفائقة وظهور نوعية أسلحة صاروخية واعتماد أسلوب القنص وانتشار مئات المسلحين في نصف المدينة تقريباً، تجعل من هذا التوصيف غير قابل للتصديق. فنزول المسلحين بأعداد كبيرة الى الشارع لا يتم إلا بقرار قيادي نتيجة شعور القيادة بالحفاظ على هيبتها ونفوذ الجهة التي تمثل، في مواجهة الخصم الذي هو في المقابل ليس فردياً بالتأكيد... وبهذا المعنى، فإن قيادة «حزب الله» - وكذلك «الأحباش» – انجرّت الى مواجهة أفلتت من يديها. 2- ان ما حصل هو 7 أيار مصغر، وفي حين كان اجتياح الحزب العاصمة عام 2008 بقرار واضح أعلنه الأمين العام السيد حسن نصرالله تحت عنوان الدفاع عن السلاح بالسلاح ونتيجة شعوره بخطر ما من هجوم خصومه عليه، وعلى رغم اعتبار خصومه انه أدخل سلاح المقاومة في صراع سياسي داخلي، تغيب عن اشتباكات أول من أمس الشعارات السياسية، بحيث يصعب أكثر تبيان الخيط الفاصل بين سلاح المقاومة ضد إسرائيل وبين السلاح المنتشر لأسباب أهلية، وسط الاحتقان الذي يعيشه الشارع نتيجة التعبئة المستمرة منذ أشهر، والذي ما زالت تفاعلات 7 أيار نفسه تلعب دوراً فيه منذ سنتين، وتضيف إليه المواقف المتباعدة الأخيرة من موضوع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، استنفاراً للمشاعر وتوتراً فئوياً ومذهبياً متصاعداً يعبّر عن ذاته في صدامات من النوع الذي حصل. وبهذا المعنى فإن البعض يرى ان مفاعيل اشتباكات أول من أمس قد تكون أكبر من 7 أيار، عسكرياً وسياسياً. 3- إن تحييد حركة «امل» نفسها عن الصدام الذي وقع، على رغم نزول مسلحيها في بعض الأحياء ثم انكفاء معظمهم ونأي قيادتها الفوري بنفسها عما حصل، يخفف من الوقع المذهبي للصدام بين الحزب وبين تنظيم سنّي ولو كان حليفاً له، لكنه يلقي الضوء على مسألة سلاح الحزب المنتشر خارج إطار مناطق المواجهة مع إسرائيل وعن دور هذا السلاح في صوغ موقع الحزب في المعادلة الداخلية، ويعيد التذكير بجدوى التزامه اتفاق الدوحة بتعهد جميع أطرافه «عدم العودة الى استخدام السلاح لتحقيق مكاسب سياسية» أو «الاحتكام إليه في ما قد يطرأ من خلافات أياً كانت هذه الخلافات». 4- لا ترضي قراءة خلفيات اشتباكات الثلثاء من زاوية القاعدة القائلة بأن انتشار السلاح تحت أي شعار نبيل الهدف، لا بد من أن يفلت من أيدي أصحابه، عدداً لا بأس به من المراقبين وبعض الوسط السياسي من الذين لا يكتفون بهذا التفسير. وتضج التحليلات في هذا المجال بالأسئلة عما اذا كان الصدام الذي وقع انطوى على رسالة سورية الى «حزب الله» باعتبار ان «جمعية المشاريع» (الأحباش) من الحلفاء الوثيقي الصلة بسورية، وذلك بهدف الإيحاء للحزب بأن النفوذ الذي ورثه بعد انكفاء الإدارة السورية المباشرة للوضع اللبناني عام 2005 (بعد الانسحاب السوري العسكري) قد انتهت وكالته مع انتهاء الخصومة بين دمشق وبين قوى ناصبتها العداء خلال السنوات الخمس الماضية، بالمصالحة بين القيادة السورية من جهة وبين رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» وليد جنبلاط من جهة ثانية، وبفضل المصالحة السعودية – السورية التي أخذت تنتج تفاهماً على الكثير من الملفات الإقليمية، لا سيما منها العراق ولبنان، بحيث تستعيد دمشق دورها في لبنان ولو معدّلاً عن مرحلة وجودها العسكري المباشر. ومقابل اكتفاء أوساط سياسية بالتفسير التقليدي لحتمية سقوط الأحزاب المسلحة في مستنقعات الصراعات الداخلية، بما يؤدي الى انحدارها مع الوقت مهما كانت شعاراتها كبيرة، مع ما يعنيه ذلك من أخطاء ومعاناة للناس والمواطنين، فإن المراقبين الذين يردون الصدامات الى خلفيات مدبّرة لا يستبعدون وجود من يسعى الى تسعير أسباب الفتنة المذهبية في ظل أجواء حاضنة لها، او يشعرون بأن الحزب ذهب بعيداً في خياراته المستقلة عن التحالف مع سورية وفي عدم مراعاة مصالح دمشق المستجدة في لبنان واكتفائه بتمثيل النفوذ الإيراني في لبنان ومتطلباته، ويعتبرون ان هذا لا يريح المسؤولين السوريين. ويستدل هؤلاء على هذا الاستنتاج من خطاب السيد نصرالله الأخير الذي طرح فيه النموذج الإيراني لإدارة أمور أساسية في لبنان، مثل دعوته الى تسليح الجيش اللبناني من إيران، مبدياً استعداده للعمل لدى طهران من اجل ذلك، واقتراحه التفكير ببناء مفاعل نووي لإنتاج الطاقة الكهربائية على غرار مفاعل بوشهر الذي دشّن العمل فيه قبل أيام...