لم يتوهم أحد من الطلاب الحاضرين حلقة النقاش الدائرية، أن مصير المصالحة الوطنية اللبنانية سيتقرّر على يد متطوعين قرّروا كسر «الجدار الفاصل» السياسي والاجتماعي والديني والأخلاقي بين مختلف أطياف الشباب اللبنانيين، لكنهم وعلى رغم ذلك زرعوا بذور التغيير في أرض «النزاعات» آملين بألا يكون يوم الحصاد بعيداً. تدير جوستين حلقة النقاش في الهواء الطلق، توزّع الأدوار، تستمع الى الأراء المتناقضة وتدع الحوار يأخذ مداه، لا مؤشرات الى أي تماثل مع تجربة الحوار والمصالحة الدائرة خارج أسوار الجامعة. فالطاولة المستطيلة غائبة، والكراسي الفخمة استبدلت بها مقاعد الجامعة الخشبية. حوار بلا ربطات عنق ولا مجاملات سياسية، والمواضيع المطروحة تثير جدلاً لا يتوقف عن الحرية الجنسية والفوارق الطبقية والتمييز العنصري والمعتقدات الدينية والانحراف الاجتماعي... ترتفع حرارة النقاش داخل حرم جامعة القديس يوسف في بيروت، ينضم مشاركون جدد الى حلقات الحوار المتشعبة، وفي المحصلة تحاول «مايسترو» الندوة جوستين دفع المتحاورين الى التلاقي عند نقطة النموذج الإيجابي... «اختلاف من دون خلاف». خلف هذا الشعار، يقف مشروع «شباب يبنون المصالحة-2» الذي أطلقته «الجمعية اللبنانية للتعليم والتدريب» ALEF بهدف خلق نموذج إيجابي لإدارة الاختلاف بين الشباب اللبناني من مختلف التوجهات السياسية والدينية والاجتماعية. المشروع الذي تم التحضير له منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2008، انطلق من مقر الجامعة العربية في غرب بيروت، ثم انتقل الى جامعة القديس يوسف وحطّ رحاله أخيراً في منطقة الدامور جنوببيروت، في مقر جمعية Arc en ciel – المركز الوطني للسلام، وغايته الأساسية التعويض عن غياب المصالحة الحقيقية في لبنان. نواة المشروع بدأت ب14 متطوعاً من مختلف الجامعات اللبنانية، انضم إليهم لاحقاً عدد آخر من المتطوعين، إضافة الى شبان وشابات من بلدة الدامور. توزعت مسؤوليات المتطوعين على إدارة الحوارات الإيجابية بين الطلاب في هذه المحطات الثلاث، والإشراف على مكتبة نقالة (كارافان) احتوت على كتب وأفلام ومواد ثقافية لها علاقة بالنشاطات الشبابية و «إدارة» الاختلاف، وشكّلت منصة للتواصل وتبادل الحوار والقيم الفكرية والمواقف السياسية، إضافة الى ألعاب تنافسية ونشاطات تنموية استهدفت تغذية لغة التواصل بين الطلاب. ويرى القيّمون على هذا المشروع «بأن المصالحة على المستوى المحلي لا يمكن أن تتحقق إلا إذا بدأ الأفراد في ما بينهم وضمن بيئتهم، بعلاج اختلافاتهم بطريقة بناءة وإيجابية تخلق لديهم ثقافة تقبّل الآخر «كما هو». يقول مسؤول جمعية ALEF جوليان كورسون «ان التغيير مسار بطئ، وهدفنا هو التأثير في هذا المسار. وكوننا جمعية تنتمي الى مؤسسات المجتمع المدني، فلا نستطيع أن نؤثر في شكل مباشر في مجرى الأحداث، لكن الأكيد أننا نستطيع أن نحدث فرقاً، تماماً كما عندما ترمين حجراً في بحيرة ساكنة... وتأثيرنا يشبه تأثير تلك الدوائر التي تبدأ صغيرة ثم لا تلبث أن تكبر تدريجاً». ويؤكد كورسون «أن مشروع «شباب يبنون المصالحة» يهدف الى تحويل الخلاف من عائق الى تجربة مثمرة، وخلق شراكة بين الشباب ومحيطهم، ما يؤدي الى إسهامهم في تطوير قدراتهم وبيئتهم، والمدخل الأساسي بالنسبة إلينا هو التأثير على سلوكيات ومبادئ هؤلاء الشباب». و«شباب يبنون المصالحة» هو جزء من مشروع «نسيج» الإقليمي، المموّل من مؤسسة فورد والذي تديره منظمة «غوث الأطفال» الأميركية. ويهدف مشروع «نسيج» الى تشجيع التنمية الشبابية وإشراك الشباب في تنمية مناطقهم في خمسة بلدان: مصر، لبنان، فلسطين، اليمن والأردن. الطالب مارك قزي من المتطوعين ال14 الذين حضّروا للمشروع، يجزم بقوله: «لن نستطيع أن نقلب الصورة رأساً على عقب، فالمصالحة المثالية غير ممكنة. المشروع مستمر لسنوات، والبداية بحد ذاتها خطوة الى الأمام». وفي تقريب أوضح للصورة يقول قزي: «الجيل المقبل من الوزراء والنواب والطبقة السياسية، هو من شباب الجامعات اليوم. فإذا بدأنا من هنا نستطيع أن نغيّر الكثير من المفاهيم السائدة لدى هؤلاء الشباب الذين تباعد بينهم الاختلافات السياسية والاجتماعية والدينية». ينتمي مارك الى جمعية trait d'union (صلة وصل) المدنية التي تشجع لغة التقارب بين الشباب وتطبق شعار «اختلاف من دون خلاف». ويقول: «الشباب الذين ينتمون الى هذه الجمعية يصوتون خلال الانتخابات الطالبية للمرشح الأكفأ، بعيداً من الاعتبارات السياسية. وانطلاقاً من تجربتي في هذه الجمعية انتسبت الى مشروع ALEF رغبة مني في المساهمة في تطوير هذا النمط من التواصل الإيجابي بين الشباب، فقبل أن نطالب رجل السياسة بالإصلاح، يجب أن نعرف ما هو الإصلاح وكيفية مقاربته». في جامعة بيروت العربية قسّمت ورش العمل الى أكثر من محور: يوم للتلاقي والتعارف، يوم للكره خلاصته ضرورة إلغاء الحواجز بين الطلاب وعدم نبذ الآخر، ويوم البيئة. استحوذ جدول الأعمال على اهتمام العديد من الطلاب ورأوا فيه متنفساً للتعبير عن الذات وعن الرأي بالآخرين. كما انصب الاهتمام على البعد البيئي من طريق إنشاء نظام لتدوير الأوراق المستعملة في حرم الجامعة، وتوزيع مستوعبات لجمع الأوراق، بالإضافة الى حملة ملصقات للترويج لأهمية إعادة التدوير. انتهت ورشة العمل في الجامعة العربية بتبني ميثاق يؤكد «أن جامعتنا مجتمع متحد في سبيل بناء وطننا والحفاظ على بيئته، وهو قائم على دور الفرد الفعال والأساسي فيه، وأن الاختلاف غنى يوفّر للإنسان أرضية للتقدم نحو الأفضل». بعد أربعة أيام، انتقل «شباب المصالحة» الى جامعة القديس يوسف. واختيار هذا الموقع له رمزيته أيضاً. فاليسوعية، يقول كورسان، تتميز بديناميكية عالية في مفهوم الالتزام الطالبي، وهي خزان «لكادرات» البلد، وغالباً ما كانت التناقضات السياسية داخله تظهر الى العلن بطريقة تسيء الى صورة الجامعة. لذلك كانت الغاية من مشروع «شباب يبنون المصالحة»، إشراك الشباب في اتخاذ القرارات وليس فقط تصويرهم على أنهم «مستقبل البلد» من دون العمل على تحويل هذا الشعار الى حقيقة ملموسة». «المصالحة» في اليسوعية جذبت عدداً لا بأس به من الطلاب المهتمّين بتحريك مياه «الحوار» الراكدة، والأعمال التطبيقية أعطت دفعاً لإغناء التجربة الطلابية. فشاركت مجموعة من الطلاب من انتماءات سياسية مختلفة، في تجديد خدمات كافيتيريا الجامعة وإصلاح مقر الهيئات الطالبية، وتم اختيار هذين المكانين كونهما مساحة مشتركة للتلاقي والحوار والتنوع. إضافة الى المكتبة النقالة التي مكثت أربعة أيام في حرم الجامعة، واستقطبت شريحة طلابية واسعة قالت كلمتها بصراحة من دون أن تقود اختلافاتها الى... الخلاف. ويقول الطالب زياد كميد أحد المشاركين في المشروع: «اختلافات الشباب يمكن أن ينتج منها بعض القواسم المشتركة التي تغني ثقافة التواصل في مجتمع تسيّره الغرائز السياسية. في كافيتيريا الجامعة التقى مناصرون ل14 و8 آذار، واتفقوا على تطوير الخدمات داخلها، وقد شكلت تجربة جديدة في إمكان استثمار خلافاتنا لتطوير المحيط الذي نعيش فيه». وبسبب حظر النشاطات في الجامعات اللبنانية، توجه عدد من طلاب هذه الجامعات الى الدامور وانضموا الى المتطوعين هناك. واكتسب هذا الموقع أهمية استثنائية كون النشاطات التنموية حصلت في إطار الضيعة وليس الجامعة. وانتهى مشروع المصالحة في محطته الأخيرة بإعادة تأهيل وإطلاق مركز «مدينة للتنوع» Diverse City، جمعت كل معطيات التجربة الطالبية ضمن المشروع، كما ستشهد في الأسابيع والأشهر المقبلة إطلاق نشاطات عدة عامة وثقافية.