منذ اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1986، بدأت إسرائيل تواجه عدواً جديداً هو الإعلام وتقنياته الحديثة، الذي بدأ يأخذ منحى جديداً بعد تحيز لإسرائيل دام فترة طويلة، استفادت منه في إقناع الرأي العام الدولي بصدقية كذبتها حول اغتصابها لفلسطين وطرد أهلها بالتواطؤ مع الدول الغربية، خصوصاً بريطانيا وفرنسا والولاياتالمتحدة الأميركية، مستغلة الضعف العربي في ذلك الحين، ومستفيدة من الدعم الغربي لمصلحتها في المجالات كافة كواحة للديموقراطية في الشرق الأوسط وحليف يعتمد عليه في المنطقة. لقد فضح الهجوم الإسرائيلي على قافلة «الحرية» الممارسات الإسرائيلية الهمجية، ضد الشعب الفلسطيني، بل تعداه ليصل إلى كل ما له علاقة بالنواحي الإنسانية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بدعم القضية الفلسطينية أو رفع الحصار المفروض على غزة، ما جعل إسرائيل للمرة الأولى تظهر على حقيقتها أمام الرأي العام العالمي كدولة غازية ومغتصبة لحقوق شعب، لا يملك الحد الأدنى من مقومات المقاومة المشروعة للاحتلال، كما أدى ذلك الهجوم إلى خسارة حليف مهم جداً لها، هو تركيا، الذي لم تحترم عهود الصداقة فاعتدت على مواطنيه والسفينة التي تحمل علمه أمام العالم كله، لتضعه في موقف محرج جداً له، لا يملك إلا أن يواجهها بفعلتها. إن حصار غزة أظهر للعالم كافة مدى الهمجية الإسرائيلية في التعامل مع شعب أعزل لا يملك الحد الأدنى من مقومات الدفاع عن النفس، ما لبث أن تطور هذا الحصار ليتحول إلى حرب دمرت كل أنواع الحياة في غزة وأمام عيون العالم كله، في الوقت الذي تدعي الدول الغربية حمايتها لحقوق الإنسان، وانتهاج الديموقراطية والحرية في التعاملات الدولية، وتتغاضى عما يحدث للشعب الفلسطيني في غزة وغيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلة الأخرى، ما أدى إلى تزايد الضغوط الشعبية الدولية لفك الحصار عن غزة، لتكون هذه الضغوط الشعبية أداة تغيير، ولو إلى حد لا يعتبر كبيراً في مواقف الكثير من الدول الغربية، التي كانت إلى قبل الهجوم على قافلة الحرية تدعم السياسة الإسرائيلية بشكل كبير وأعمى، وبعضها لا يزال يدافع ويبرر تصرفاتها المشينة. إن وصول اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو وليبرمان إلى الحكم وعبر الانتخابات، هو دليل قاطع على أن الشعب الإسرائيلي لا يزال بعيداً جداً عن السلام، الذي أصبح مطلباً دولياً في المنطقة، خصوصاً من أقرب حلفاء إسرائيل - الولاياتالمتحدة الأميركية - وليزيد الضغوط على الساسة الإسرائيليين لتغيير منهجهم في التعامل الإسرائيلي مع عملية السلام في الشرق الأوسط، والوصول إلى حل مقبول مع الفلسطينيين، لكن اليمين الإسرائيلي، يرفض التفاوض أحياناً بشكل مباشر، وأحياناً أخرى بشكل غير مباشر، كالتسويف بالعملية التفاوضية، ما يزيد التكهنات بأن القيادة الإسرائيلية الحالية، وهروباً من استحقاقات السلام والضغوط الدولية بشكل عام والأميركية بشكل خاص، من الممكن أن ترتكب حماقة شن حرب ولو محدودة على سورية أو لبنان، لتغيير قواعد اللعبة وخلق وضع جديد لحلفائها، لا يستطيعون التعامل معه إلا من خلال الوقوف مع الجانب الإسرائيلي في هذه الحرب المتوقعة وتفقدهم صدقيتهم لدى الجانب العربي. أعتقد أن إسرائيل وصلت إلى مرحلة حرجة جداً، وذلك من خلال سيطرة اليمين المتطرف على السياستين الخارجية والداخلية، وتعبئته الشارع الإسرائيلي بالتطرف والكراهية للعرب، وتغذيته بالأكاذيب حول الوضع الإسرائيلي، ما يؤدي إلى خسارتها الحليف الكبير – الولاياتالمتحدة الأميركية - على المدى البعيد، والتأثير على مصالحه الحيوية في المنطقة بشكل سلبي جداً، وخسارته للمكاسب السياسية والإعلامية التي حققها بعد وصول أوباما للرئاسة، وزيادة الرفض الشعبي لدى الرأي العام الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص، وتزايد الوعي الشعبي الدولي، وكذلك تزايد حيادية وصدقية وسائل إلاعلام الدولية تجاه القضية الفلسطينية، ما يعزز توقعاتنا بتوتر العلاقات مع الولاياتالمتحدة، وسقوط حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي، وعودة حكومة لديها الرغبة في السلام مع الفلسطينيين. لقد بدأت إسرائيل تفقد سلاحها الذي كانت تحارب به العرب وهو الإعلام، بعد أن بدأت تظهر صورتها الحقيقية أمام الرأي العام العالمي، من خلال تزايد نفوذ القوى الشعبية المعارضة للنهج الغربي في الدعم الأعمى لإسرائيل، وعجز الحكومات الغربية عن السيطرة على الإعلام الدولي لتخفيف التغطية السلبية لإسرائيل، ما يعطي للفلسطينيين والعرب الفرصة باستغلال هذا السلاح لفضح إسرائيل وسياساتها العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني. أعتقد أن السلام هو ما تخشاه إسرائيل، فهي تبحث عن الأمن من دون إعطاء تنازلات للفلسطينيين تؤدي للسلام، وكذلك الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة في الجولان وجنوب لبنان، إذ لا يمكن الحصول على الأمن من دون سلام عادل، ولا يمكن الحصول على سلام عادل من دون تنازلات، لذلك المعادلة صعبة بالنسبة لإسرائيل، فهي ترفض التنازل، والتفاوض من قاعدة أن الفلسطينيين لهم حقوق مشروعة، وكل هذا التعنت والممانعة بسبب الدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل، على رغم وجود بعض الإشارات المشجعة من الرئيس أوباما، الذي اعتقد أنه يواجه مقاومة شرسة من بعض رموز إدارته، إضافة إلى الممانعة القوية من اليمين الإسرائيلي، المتحالف مع اليمين الأميركي. أعتقد أن العرب بدأوا يتعاملون مع الإعلام الدولي بشكل أكثر فاعلية، من خلال إنشاء الكثير من القنوات الفضائية الاحترافية، مثل قناة الجزيرة الإخبارية، وكذلك انتشار تقنية الشبكة العنكبوتية لتكون أداة تواصل غير رسمية بينهم وبين شعوب العالم، من دون المرور عبر الوسائل الرسمية، فالهجوم على غزة وحصارها، ثم الهجوم على قافلة الحرية، لم يغط التغطية الجيدة من الكثير من القنوات الكبيرة التقليدية مثل «CNN» و«BBC» وغيرهما من القنوات التي عرفت بتحيزها لإسرائيل، لكنها أخذت تغطية من القنوات الأخرى، الإقليمية والدولية، ما يعزز الاعتقاد بأن هناك إعلاماً جديداً بدأ يأخذ موقعه في الساحتين الدولية الإعلامية. والسؤال المطروح هو: هل فعلاً بدأ العد التنازلي لفقدان إسرائيل سيطرتها الإعلامية على الرأي العام الدولي، ما يجعلها تفقد الدعم السياسي من الحكومات الداعمة لها وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية؟ أم أن خيارات الحرب الإعلامية بين العرب وإسرائيل لا تزال مفتوحة؟ * أكاديمي سعودي