طوال مشوارها الفني وحتى بعد رحيلها، تعرضت سيدة الغناء العربي أم كلثوم لحملات هجوم طاحنة، ومحاولات لإزاحتها وعرقلتها واغتيالها معنوياً وتشويه سمعتها وصورتها، وإلصاق كل الموبقات بها. هذا ما يكشف عنه كتاب «قتلة أم كلثوم» للصحافي أيمن الحكيم الصادر عن دار «هلا» في القاهرة. يرصد المؤلف بالتحليل والوثائق فترة مهمة من حياة أم كلثوم، ويتعرّض الى جوانب أخرى شائكة ومختلفة من حياتها ومشوارها تختلط فيها السياسة بالمواقف الشخصية والمؤامرات بالعقد النفسية. ويركز في شكل أساسي وتفصيلي على المعارك الخمس التي خاضتها أو أجبرت على خوضها، إلى جانب عدد آخر من الإشاعات. بدافع من المنافسة والغيرة تعرضت أم كلثوم، وهي لا تزال صبية تشق طريقها، الى أول حملة اغتيال قادتها سلطانة الطرب منيرة المهدية عام 1926 عندما فرضت نفسها في شهور قليلة ما سبب قلقاً لكثيرات منهن المهدية التي استخدمت كل الأساليب لوقف صعودها واستعانت بالصحافة ضد الفتاة القروية القادمة من كفر الزهايرة. وكان يد منيرة المحركة في حملتها، صحافي وناقد اشتهر بحدة نقده وسلاطته في الهجوم. بدأ حملة شرسة على صفحات مجلة «المسرح» في كانون الأول (ديسمبر) 1927، مخصصاً صفحات كاملة مليئة بالأكاذيب والافتراءات، ولم يتورع عن تلفيق تهم أخلاقية. وبلغ كذبه حد وصفه أم كلثوم بالمرأة الطائشة التي يلذ لها العبث المجرم بالرجال من حولها والاستهتار الكامل. واختلق قصصاً وأسماء شخصيات أثارت التساؤلات من حولها، ومنها مثلاً «سؤال وجهه إلى أم كلثوم: هل تعرفين شخصاً يُدعى عمر لطفي؟ ولماذا دفع من أجلك 35 جنيهاً للدكتور الشوربجي»؟ ثم اتهمها في مقال آخر بأن لها ابنة من علاقة غير شرعية إثر تعرضها للاغتصاب في قريتها ووعد بنشر الوثائق التي تثبت ما يقول في العدد التالي، لكن ذلك لم يحدث لأنه لم يكن هناك وثائق ولا قضية من الأصل. وكانت منيرة المهدية تدعم الصحافي فتغذي المجلة بأخبار مُلفقة عن أم كلثوم، وتنفخ في نارها وتزيد من قسوة الهجوم والتجريح والطعن في حق غريمتها. كانت المعركة الأولى أحط وأقذر معركة تعرضت لها أم كلثوم وكانت كفيلة بهدم مستقبلها الغنائي، مع ذلك لم ترد على هذه الحملة البشعة. المعركة الثانية كانت مع مفيد فوزي، لكنها لم تكن من القوة بحيث تؤثر في مكانة كوكب الشرق بسهولة. واعتبر أيمن الحكيم أن رأي فوزي في أم كلثوم أشبه بوردة على شكل قنبلة عنقودية أو العكس. دعم رأيه بوثيقة بخط يد فوزي، مقال لم يُنشر من قبل، بعنوان «الغضب الكلثومي» فيه إشارات كثيرة بين السطور تسيء إلى أم كلثوم، وتلميحات إلى أنها سيدة الاستبداد العربي، وأنها كانت وراء إيقاف برنامجه التلفزيوني «غرفة مضيئة» انتقاماً منه. طوال صفحات الكتاب يقرأ أيمن الوثيقة ويفندها، ويقرأ الوقائع بعيون أصحابها ثم يحاول قراءتها ثانية بعيون أخرى غير عيني الضحية، محاولاً قدر الإمكان الاستعانة برأي كُتَّاب مشهود لهم بالنزاهة والموضوعية وتحري الحقيقة، فيستعين مثلاً بمحمد وجدي قنديل ليعرف حكاية البرنامج الذي كان يُعده مفيد فوزي على إذاعة الشرق الأوسط في رمضان والذي حاول إثارة الجدل حول أغاني أم كلثوم ومكانتها وقيمتها الفنية الأصيلة. ويستشهد الحكيم أيضاً برأي الناقد جليل البنداري الذي وصف بعض الآراء والعبارات التي قيلت في حق أم كلثوم بأنها تدخل تحت طائلة المادة 302 من قانون العقوبات الخاصة بالسب والقذف والتشهير. ومع ذلك لم ترد أم كلثوم، فقط اكتفت بطلب منع إذاعة أغانيها على تلك الإذاعة التي حاولت النيل من قيمتها وتاريخها. المعركة الثالثة كانت بسبب قصيدة أحمد فؤاد نجم الشهيرة «كلب الست». أما المعركة الرابعة والأخطر فاختلطت فيها السياسة بالفن بالإشاعات بالصراع بين عصرين وزعيمين وسيدتين، وانتهت على حد وصف مؤلف الكتاب بقهر أم كلثوم. تزامنت وقائع تلك المعركة مع عهد السادات الذي كان طرفاً فيها هو وعقيلته جيهان السادات التي أصرت على أن تُسبق أخبارها وصورها بجملة «سيدة مصر الأولى». المعركة مشحونة بالتفاصيل منها مخاطبة أم كلثوم للسادات «أبو الأناور» ما أغضب زوجته التي اعتبرت «ثومة» رمزاً للعهد الماضي، وقررت أن تصنع مطربة جديدة تُعبر عن العهد الجديد، فوقع اختيارها على إفراج الحصري التي اشتهرت باسم ياسمين الخيام. وفق ما يرويه الشهود لأيمن الحكيم صدرت أوامر عليا لكبار الملحنين ليُلحنوا لها وعلى رأسهم عبد الوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي. أخذت عملية صناعة نجم بديل لأم كلثوم شكلاً مستتراً لم يكن معلناً عنها ولا واضحاً للعيان ولكن الصدام بين السيدتين لم يستمر على هذا النحو، إذ سريعاً ما أصبح علنياً وسافراً خصوصاً في ما يتعلق بمشروع «دار أم كلثوم الخيرية» إذ اعلن في ذلك الوقت عن مشروع خيري منافس تترأسه جيهان السادات ويحمل اسم «الوفاء والأمل». وفي كل حواراتها الصحافية والتلفزيونية تُكرر السيدة جيهان النفي بأنها كانت وراء العراقيل أمام مشروع كوكب الشرق، بل تتمادى بإرجاع مثل هذه الإشاعات إلى بعض الشخصيات مثل الدكتورة نعمات أحمد فؤاد وسامي شرف. لكن اللافت هو رد فعل أم كلثوم نفسها، إذ دعت مجلس إدارة المشروع وقالت لهم: «أنا اسمي أكبر من أن يكون مضغة في الأفواه، ولذلك قررتُ إيقاف المشروع». واللافت أيضاً في رد فعل أم كلثوم في هذه المعركة أنها عندما كانت تُسجل مذكراتها مع الإذاعي القدير وجدي الحكيم نفت ما تردد عن معركتها مع السيدة الأولى واعتبرته مجرد إشاعة. لكن مؤلف الكتاب لا يُسلم بما جاء على لسان «ثومة»، ليس من قبيل التشكيك، ولكن في محاولة للتفسير، ففي رأيه أن أم كلثوم كانت من الذكاء لتطلق مثل هذه التصريحات الديبلوماسية وألا تُوصل خلافاتها إلى الناس خصوصاً إذا كانت هذه الخلافات مع الرئاسة. ويستند أيمن الحكيم في إثبات صحة هذه المعركة مع جيهان السادات بتعليق للراحل رجاء النقاش على هذا النفي واستمراره في توجيه الاتهامات للسيدة جيهان بوصفها قاهرة أم كلثوم، ووصفه المعركة بأنها كانت إحدى الحروب النسائية التي تعرضت لها كوكب الشرق وأشدها ضرراً وأثراً، إذ أنها تسببت في اكتئابها وتدهور صحتها ورحيلها كمداً. ولم يكتف مؤلف الكتاب بطرح الوثائق وتدوين الملاحظات من حولها، لكنه ألحق بها قبساً عن حياة صاحب المعركة وتكوينه النفسي والاجتماعي والأدبي. ثم أخذ يصوغ الحجج ويسوق البراهين والمبررات لإثبات وجهة نظره، ساعده على ذلك ثقافته الواسعة وقدرته على التحليل ولغته الطيعة البليغة.