«في قريتي الصغيرة كان الناس يستقبلون شهر الصيام بمظاهر بسيطة ولكنها معبّرة عن قدوم ضيف كبير، ومشاعرهم الصادقة والصافية بعكس المدن الصاخبة»، هكذا يعود الأكاديمي المفكر محمد آل زلفة إلى سنين خلت حين كان طفلاً في بلدته الوادعة في الجنوب السعودي، مستذكراً أيام رمضان الجميلة التي فقدها مع ضوضاء العاصمة لمدة 50 عاماً. وقال آل زلفة: «استقبل رمضان هذه المرة في قريتي التي استعدت معها الكثير من البدايات مع الحياة ورمضان، خصوصاً مع قيمته في تلك الأزمنة، إذ كان الناس ينتظرونه بلهفة شديدة، لأرواحهم الطيبة وإيمانهم الصادق وشعورهم الصافي تجاه أنفسهم وجيرانهم»، مضيفاً أنه يتذكر جيداً كيف كانت النساء يستقبلن رمضان بالطبخ بالأدوات البسيطة وتجهيز البيوت في منطقتنا الجنوبية ذات الطوابق المتعددة والمباني الحجرية، إلى جانب تزيين النوافذ الذي يشعر بأن هناك ضيفاً ذا قيمة رفيعة قادم. وأضاف كانت النساء هناك جميعهن يطبخن في البيوت وترى المطابخ في الدور العلوي يتصاعد الدخان منها بكثافة، والرجال أيضاً يسهمون في تجهيز القهوة، وقال: «لم يبق من ذلك الزمن الجميل سوى رائحة الخبز، ولكنني رممت بيتي الذي عشت فيه مع أخوتي لأتذكر بيتي»، وعن صيامه في الصغر، تحدث: «دخلته طوعاً بالتنافس، وهذا الجميل في الماضي فأنت تريد اللحاق بالرجال، والأهل كانوا يحملون روح التسامح، فكنا نصوم ونفطر وكانوا يتغاضون عن هفوة الفطر لصغرنا، وأذكر أن مدير المدرسة كان يخشى على الطلاب الذين يصومون وهم لم يبلغوا سن التكليف، فكان يجبرهم على شرب الماء لئلا يضروا أنفسهم أو مدرسيهم. وفي ما يخص الصيام في منطقة الرياض واختلافه عن قريته في الجنوب، قال: «صمت سنوات كثيرة في الرياض قاربت 50 عاماً، كانت السنوات الأولى مختلفة عن القرية ذات الرونق والجمال الإلهي، ولكن لم أصم في الرياض فحسب، بل صمت في تركيا وكان صياماً تاريخياً في اسطنبول فعندما يأتي الفطور كانت الأنوار كلها مضاءة، كأن الوقت في الظهيرة، وهناك مطاعم تعد موائد خاصة، وصمت كذلك في بريطانيا وأميركا، ولكن الصيام في الغربة يذكرك بكونك غريباً». ولفت إلى أن رمضان هو شهر الإنجاز، ويستغرب من يضعه شهر الكسل والخمول، إذ هو قمة العمل إلا في المناطق الصيفية الحارة، وقال: «أرثي لحال هؤلاء الذين يعملون خارج المكاتب في شمس حارقة، وقرأت أن الملك عبدالعزيز كان منتقلاً في حر الظهيرة، فرأى من يعملون في تلك الأجواء فأمر بألا يعملوا أبداً في ذلك الوقت»، مشيراً إلى أنه يجب على الوزراء والجهات الرسمية أن تقتدي بتصرف الملك المؤسس. ويذكر أن رمضان أعاد فيه الحنين للجنوب، وقال: «كأني رجعت لستين سنة خلت فنحن في القرية هنا ننام بعد العشاء ونستيقظ قبل السحور ونصلي الفجر ونرى شروق الشمس، لأننا في قرية وادعة على عكس المدن الذين يقلبون ليلهم نهاراً ونهارهم ليلاً، وأنا الآن أعد في مركز آل زلفة الثقافي لجلسات ليلية رمضانية للمثقفين والأدباء في المنطقة نقرأ في كتاب أو نتحادث عن رمضان القديم».