لم يسبق لي أن تعرفت إلى الشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي معرفة شخصية ولا شاءت الصدف ان ألتقي به ولو مرة واحدة خلال ملتقيات الشعر العربي ومهرجاناته. لكن ذلك لم يكن ليمنعني بأي حال من قراءة الكثير من مجموعاته ومؤلفاته الشعرية والأدبية التي ظلت تحتفظ لنفسها بنكهة مميزة هي أقرب الى الرشاقة والرقة والهم الجمالي منها الى الشعرية المتصلة بالكدح الذهني والمعادلات العقلية والفلسفية. لقد بدا الشعر في معظم أعمال القصيبي محاولة دائبة لجعل الحياة أكثر خفة وقابلية لأن تعاش في عالم القسوة والفظاظة وخراب القيم. وهو قد توسل لتحقيق ذلك لغة شفافة وآهلة بالإيقاعات والقوافي المتناغمة مع حاجة الشاعر الى الفرح والاستكانة ومعابثة العالم. وكانت لغته اللينة وتلويناته الصورية والصوتية تقربه الى حد بعيد من مناخات الكتابة «الشامية» التي تجمع بين طراوة نزار قباني وحسينة الكرنفالية الشهوانية من جهة وبين المدرسة الجمالية اللبنانية التي تحتفي باللغة المصقولة وأناقة التعبير وتوشيته من جهة أخرى. تقع تجربة غازي القصيبي، بشقيها الخليلي والتفعيلي، في خانة ما يمكن تسميته بالكلاسيكية الجديدة. لذلك ظلت علاقته بشعراء الحداثة ملتبسة ومحكومة بالتوجس المتبادل. ومع ذلك، فإن قلة من الشعراء والمتابعين قد انتبهوا الى النقلة المفاجئة وغير المتوقعة التي حققها الشاعر من خلال مجموعته الاستثنائية «سحيم» التي أطلقت شاعريته، المحافظة نسبياً، من عقالها ووضعتها في قلب الحداثة الشعرية العربية. فنحن هنا امام عمل شعري شديد التكامل والتنوع والتناغم بين عناصره. ذلك ان الشاعر استطاع من جهة ان يطلق قصة سحيم، عبد بني الحسحاس، الذي عُرف بفحولته وجاذبيته النسائية وسطوته على النساء البيضاوات، من إطارها الزمني الظرفي الى فضاء المطلق ورحابته. انها المعادل الآخر لقصة عنتر العبسي سوى ان سحيم لم يقسم فحولته بين النساء والسيوف ولم يتعرف إلى لمعان ثغورهن بل من خلال المغامرات العاطفية المشبوبة التي جعلته لا يرتضي بامرأة واحدة. انه مزيج من عنترة وعمر بن ابي ربيعة، من الانتقام للسواد المهان عند الأول ومن الوصف الحسي وتلمس السعادة عبر الجسد الأنثوي المتكرر الظلال عند الثاني. غير ان بيت القصيد في هذه المجموعة ليست القصة او الفكرة وحدها بل ذلك الانسياب الشعري الذي يتدافع كالنهر من أول الحكاية حتى آخرها ومن مقطع الى مقطع. ثمة تداخل في الأصوات والأزمنة والضمائر بقدر ما تتداخل الرؤى والأطياف والمشاعر المتناقضة والملتبسة، وبقدر ما تتداخل ايضاً ابيات سحيم بسطور القصيبي ووجدانه بوجدانه والأنا الأولى بالأنا الثانية في عملية تماهٍ نادرة. في هذه المجموعة تتحد الأضداد وتتصارع الخيارات فوق سطح واحد: الخير والشر، الجسد والروح، الذكورة والأنوثة والحرية والاستعباد: «أنا عبد وحرُّ/ سميّة كانت مليكة كل النساء/ وكنت أنا العبد، كنت/ مليك جميع الرجال/ وحين اعتنقنا تصادم ليلٌ وفجرُ/ وفي الانفجار تحوّلت الأرض عرساً/ وجاء الشهود». وكما الرؤية والمعنى كذلك اللغة والأسلوب والجسد البلاغي للنص. فالشاعر الذي يسلم القياد للتداعي العفوي في السرد واللفظ والتقفية يعمد أحياناً الى استخدام مهاراته البلاغية من خلال الطباق والجناس والإحالة والتناظر. لكن ذلك يأتي بلا كلفة ولا افتعال لا بل انه يصب في خدمة المعنى وتطوير الدلالة، كما هو في المقطع التالي الذي يلعب فيه الشاعر، عبر قناعه التاريخي، على اسم «سمية» واشتقاقاته الكثيرة والمؤثرة بما يخدم المعنى والقصد من ناحية ويخلق من خلال تكرار الحروف الصوتية مناخاً موسيقياً بالغ الجمال من جهة أخرى: وأهمية مثل هذه النصوص انها لا تنجح في الإفلات من الآثار الجانبية السلبية للمحسنات البديعية والتزيين البلاغي والمهارات اللفظية فحسب بل انها تنجح في تطويع الشكل وترشيقه. بما يتلاءم مع طبيعة الموقف المعبَّر عنه والمعنى المراد إيصاله الى القارئ. كما ان تكرار حرف السين، وهو حرف صوتي بامتياز، يحول الشعر هنا الى نوع من الزقزقة التي تشبه زقزقة العصافير، والتي تتوافق أتم التوافق مع حالة العشق والوله التي يعبر عنها القصيبي بلسان بطله الذي يعرف كيف يتلاعب عن طريق اللغة بمشاعر النساء وعواطفهن. فالقصيبي يعرف بحسه الذكوري وخبرته العاطفية وحساسيته الشعرية المفرطة ان اللغة هي إحدى المفاتيح الأكثر نجاعة وفاعلية لولوج قلب المرأة والاستحواذ على إعجابها ولأنه يتقاسم مع سحيم افتتانه بالنساء وباللغة على حد سواء فهو يحول بطله «الاستشهادي» الى قناع له ويحمله بالتالي كل ما يختزنه في داخله من لواعج وشجون إزاء النساء اللواتي أحبهن واللواتي يتحولن الى ظلال متعددة لروح الانوثة الابدية التي تجرنا وراءها، كما يقول الشاعر الألماني غوته. وليس من الغرابة تبعاً لذلك أن تتعدد أسماء الحبيبات المقصودات بالخطاب بين سمية وأسماء وعميرة ومي وهند وبثينة وغيرهن فيما يحافظ الخطاب الشعري على وتيرته الساخنة والقلب على توتره وخفقانه. وحين يخطئ سحيم من دون قصد في تسمية احدى عشيقاته التي تسارع الى لومه ومعاتبته يقول لها: «أنا، هند، عبد الجميلات/أصبو لكل الجميلات/ لكن بعض الجميلات يعبرن مثل السحابة/ بعض الجميلات يرسخن في الروح كالنخل...». ثمة في ديوان «سحيم» ما يظهر معرفة الشاعر العميقة بعلم النفس وبالكثير من وجوه التحليل النفسي لشخصية سحيم كما للشخصيات الأخرى. فسحيم لا يجد ما يرد به على استعباده من قبل بني الحسحاس كما على سواد لونه سوى شعوره العارم بفحولة طاغية لا يمتلكها أسياده المترهلون من الترف، لذلك فإن اندفاعه الشهواني الأهوج يجيء انتقاماً من هؤلاء الاسياد المستبدين من جهة وهجوماً على الحياة الجائرة التي حرمته من حقوقه الانسانية المختلفة من جهة أخرى. كأن سحيماً هنا يواجه سلطة المجتمع الاستبدادي والعنصري عبر سلطتين اثنتين توفرتا له في آن هما سلطة اللغة والجسد الفتي، وكلاهما معاً ضرب من ضروب الفحولة. أما الوجه الآخر للتحليل النفسي فيظهر من خلال افتتان نساء بني الحسحاس بعبد قبيلتهن الأسود متجاوزات عقدة التفوق الاجتماعي وعقدة اللون والوسامة والشكل. فالنساء اللواتي افتتن بسحيم لم يفعلن ذلك بسبب وسامته النادرة، كما الحال بالنسبة لزليخة ويوسف النبي، بل لسبب معاكس تماماً ومتصل بجمال القبح، إذا جاز التعبير، حيث ينجح هذا الأخير في استثارة الغرائز الفطرية والشهوات غير المروضة. وهذه الظاهرة يتكرر التعبير عنها في الآداب العالمية المختلفة حيث يتكفل كل من الشهوة والحب في ازالة الفوارق بين الطبقات والأعراق والأعمار. اضافة الى مسالة أخرى تتعلق بما يمكن أن نسميه «حسن الغريب». فالعادة عدوة الجمال، كما يقول بعض المفكرين، لأنها تفسده بالتكرار والرتابة الباعثين على الضجر، في حين أن الغريب والوافد يحتفظ بسحره الخاص الناجم عن الغموض والمباغتة والفضول. وهو ما نرى نظائره في «ألف ليلة وليلة» حيث النساء، كما المدن، يسلسن قيادهن وزمام أمورهن للغريب الوافد. ثمة بعد قدري في شخصية سحيم، كما يرسمها بنجاح غازي القصيبي، حيث يبدو البطل مشدوداً الى مصيره المأسوي من دون إبطاء وحيث تقوم علاقة ثنائية جدلية بين الحب والموت وبين الشهوة والألم، وهو ما يظهر في غير موقع من الديوان. فحين تطلب أم سحيم من ابنها أن يعلن ندمه وتوبته يرفض الأمر لأنه يرفض أن يخون معنى حياته الموزع بالتساوي بين الشعر والغيد، وفق تعبير الشاعر. وإذ تبدي أم الشاعر خوفها عليه من الاغتيال والقتل يتساءل مندهشاً: «أموت؟ متى خفت من ضمة الموت؟!»، بما يجعل شخصية البطل تراجيدية بامتياز وقريبة من التراجيديا الإغريقية أو الشكسبيرية. لكنه في أي حال ليس وحيداً على جلجلة الحب القاتلة تلك بل ثمة كثيرون في صحراء العرب شاركوه ذلك المصير الفاجع بدءاً من العذريين الذين قادهم الحب الى الجنون والعزلة والهلاك ووصولاً الى وضاح اليمن الذي دفنه الوليد بن عبدالملك حياً في أقبية قصره بعد أن استشعر خيانته له. يبقى القول أخيراً بأن غازي القصيبي في ديوانه «سحيم» قد ترك لنا ولقرائه جميعاً أحد أجمل دواوين الشعر العربي المعاصر. لكن هذا الديوان لم يكن مأثرة الشاعر فحسب بل كان مأزقه وتحديه ورهانه الأهم على مواجهة الموت.